الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                              (1) مقدمة تلخيص صحيح الإمام مسلم

                                                                                              قال الشيخ الفقيه ، الإمام العالم المحدث ، أبو العباس ابن الشيخ الفقيه أبي حفص عمر ، الأنصاري القرطبي - رحمه الله - :

                                                                                              الحمد لله بمجامع محامده التي لا يبلغ منتهاها ، والشكر له على آلائه ، وإن لم يكن أحد أحصاها .

                                                                                              وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة محقق أصولها محيط بمعناها ، وأشهد أن محمدا رسول حل من ربا النبوة أعلاها فعلاها ، وحمل من أعباء الرسالة إدها ، فاضطلع بها وأداها ، فجلا الله به عن البصائر رينها ، وعن الأبصار عشاها ، صلى الله عليه من الصلوات أفضلها وأزكاها ، وأبلغه عنا من التحيات أكملها وأولاها ، ورضي الله عن عترته وأزواجه وصحابته ما سفرت شمس عن ضحاها ، وبعد :

                                                                                              فلما قضت نتائج العقول ، وأدلة الشرع المنقول : أن سعادة الدارين منوطة بمتابعة هذا الرسول ، وأن المحبة الحقيقية باقتفاء سبيله واجبة الحصول قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني [ آل عمران : 31 ] انتهضت همم أعلام العلماء ، والسادة الفضلاء ، إلى البحث عن آثاره : أقواله وأفعاله وإقراره ، فحصلوا ذلك ضبطا وحفظا ، وبلغوه إلى غيرهم مشافهة ونقلا . وميزوا صحيحه من سقيمه ، ومعوجه من مستقيمه ، إلى أن انتهى ذلك إلى إمامي علماء الصحيح ، المبرزين في علم التعديل والتجريح : أبي عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري ، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ، فجمعا كتابيهما على شرط الصحة ، وبذلا جهدهما في تبرئتهما من كل علة ، فتم لهما المراد ، وانعقد الإجماع على تلقيبهما باسم الصحيحين أو كاد ، فجازاهما الله عن الإسلام أفضل الجزاء ، ووفاهما من أجر من انتفع بكتابيهما أفضل الإجزاء .

                                                                                              غير أنه قد ظهر لكثير من أئمة النقل ، وجهابذة النقد : أن لمسلم ولكتابه من المزية ; ما يوجب لهما أولوية ; فقد حكى القاضي أبو الفضل عياض الإجماع على إمامته وتقديمه ، وصحة حديثه ، وتميزه ، وثقته ، وقبول كتابه . وكان أبو زرعة وأبو حاتم يقدمانه في الحديث على مشايخ عصرهما .

                                                                                              وقال أبو علي الحسن بن علي النيسابوري : ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم .

                                                                                              وقال أبو مروان الطيبي : كان من شيوخي من يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري .

                                                                                              وقال مسلم بن قاسم في تاريخه : مسلم جليل القدر ، ثقة ، من أئمة المحدثين ، وذكر كتابه في الصحيح ، فقال : لم يضع أحد مثله .

                                                                                              وقال أبو حامد بن الشرقي : سمعت مسلما يقول : ما وضعت شيئا في هذا المسند إلا بحجة ، وما أسقطت منه إلا بحجة .

                                                                                              وقال ابن سفيان : قال مسلم : ليس كل الصحيح وضعت هنا ، إنما وضعت ما أجمعوا عليه .

                                                                                              وقال مسلم : لو أن أهل الحديث يكتبون الحديث مائتي سنة ، فمدارهم على هذا المسند ، ولقد عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي ; فكل ما أشار إلى أن له علة تركته ، وما قال : هو صحيح ليس له علة أخرجته .

                                                                                              هذا مع أن الكتاب أحسن الأحاديث مساقا ، وأكمل سياقا ، وأقل تكرارا ، وأتقن اعتبارا ، وأيسر للحفظ ، وأسرع للضبط ، [مع] أنه ذكر صدرا من علم الحديث ، وميز طبقات المحدثين في القديم والحديث .

                                                                                              ولما كان هذا الكتاب بهذه الصفة ، ومصنفه بهذه الحالة ، ينبغي أن يخص بفضل عناية ; من تصحيح وضبط ورواية ; وحفظ وتفقه ودراية .

                                                                                              إذ الاعتناء بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرف الأقدار ; وينهض الحجة ويسدد الاعتبار ; وينفع البصائر ، ويفتح الأبصار ; ويميز [عن]الجهلة ، ويلحق بالأئمة الأبرار ، ويدخل الجنة وينجي من النار .

                                                                                              وقد أعان الكريم الوهاب على الاعتناء بهذا الكتاب ، فتلقيته رواية وتقييدا عن جماعة من أعلام العلماء ; وثافنت في التفقه فيه بعض سادات الفقهاء .

                                                                                              فممن رويت عنه :

                                                                                              الشيخ الفقيه القاضي المحدث الثقة الثبت ، أبو الحسن علي ابن الشيخ الزاهد الفاضل ، المحدث المقيد ; أبي عبد الله محمد بن علي بن حفص اليحصبي ، قراءة عليه ، وهو يمسك أصله نحو المرتين ، في مدة آخرها شعبان سنة سبع وستمائة .

                                                                                              والشيخ الفقيه القاضي الأعدل ، العلم الأعلم ، أبو محمد عبد الله بن سليمان بن داود بن حوط الله ، قراءة عليه ، وسماعا لكثير منه ، وإجازة لسائره ، وذلك بقرطبة في مدة آخرها ما تقدم :

                                                                                              قالا جميعا : حدثنا الشيخ الإمام الحافظ ، أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال ، قراءة عليه ، عن أبي بحر بن سفيان بن القاضي ، سماعا لجميعه إلا ورقات من آخرها أجازها له ، عن أبي العباس العذري ، قراءة غير مرة ، عن أبي العباس بن بندار الرازي ، سماعا بمكة ، قال :

                                                                                              حدثنا أبو أحمد بن عمرويه بن الجلودي ، عن إبراهيم بن محمد بن سفيان ، عن أبي الحسين مسلم رحمهم الله .

                                                                                              وقد رويته عن غير واحد من الثقات الأعلام ، قراءة وإجازة بمصر وغيرها ، عن الشيخ الشريف أبي المفاخر سعيد بن الحسين المأموني الهاشمي سماعا ، عن الشيخ الإمام أبي عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الصاعدي الفراوي ، سماعا ، عن الشيخ أبي الحسين عبد الغافر الفارسي ، سماعا ، عن أبي أحمد ; كما تقدم .

                                                                                              وقد رويته عن جماعة كثيرة ; بأسانيد عديدة ، وفيما ذكرناه كفاية ، والله الموفق للهداية .

                                                                                              ولما تقاصرت الهمم في هذا الزمان عن بلوغ الغايات ; من حفظ جميع هذا الكتاب ; بما اشتمل عليه من الأسانيد والروايات ، أشار من إشارته غنم ; وطاعته حتم إلى تقريبه على المتحفظ ; وتيسيره على المتفقه ; بأن نختصر أسانيده ، ونحذف تكراره ، وننبه على ما تضمنته أحاديثه بتراجم تسفر عن معناها ، وتدل الطالب على موضعها وفحواها . [ ص: 85 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 85 ] (1) باب

                                                                                              ما تضمنته خطبة الكتاب وصدره من المعاني والغريب

                                                                                              (قوله : " الحمد لله ") الحمد لغة : هو الثناء على مثنى عليه بما فيه من أوصاف الجلال والكمال .

                                                                                              والشكر والثناء بما أولى من الإنعام والإفضال ، وقد يوضع الحمد موضع الشكر ، ولا ينعكس ; والشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح .

                                                                                              قال الشاعر :


                                                                                              أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا

                                                                                              قال ابن الأنباري : الحمد مقلوب المدح ، والألف واللام في الحمد : إذا نسبتا إلى الله تعالى : للجنس ، أي : الحمد كله له ; وهذا أولى من قول من قال : إنهما للعهد ; بدليل خصوصية نسبته إلى هذا الاسم الذي هو أعم الأسماء دلالة وأشهرها استعمالا ; ألا ترى أنهم لم يقولوا : الحمد للملك ، ولا للحق ؟! ولأنه لم يجر ذكر معهود قبله فيحمل عليه .

                                                                                              [ ص: 86 ] والمحامد : جمع محمدة ، بكسر الميم ; كما قال الأحنف بن قيس : ألا أدلكم على المحمدة بلا مرية ؟ الخلق السجيح ، والكف عن القبيح .

                                                                                              وكان قياس ميم المحمدة التي هي عين الفعل : أن تكون مفتوحة ; لأن قياس الأفعال الثلاثية التي يكون الماضي منها على فعل مكسور العين : أن يكون الفعل منها مفتوح العين في المصدر والزمان والمكان ; كالمشرب ، والمعلم ، والمجهل ، لكن شذت عنهم كلمات .

                                                                                              قال أبو عمر الزاهد : لم يأت على مثال فعلت مفعلة إلا قولهم : حمدت محمدة ، وحميت محمية ، أي : عصمت ، وحسبت محسبة ، ووددت موددة ، وأنشد الراجز :


                                                                                              ما لي في صدورهم من موددة

                                                                                              وزاد غيره : كبرت مكبرة ومكبرا ; كما قال أعشى همدان :


                                                                                              طلبت الصبا لما علاني المكبر

                                                                                              وحكى ابن البياتي في " كتابه الكبير " في ميم المحمدة الفتح ، ونقل عن ابن دريد : محمدة ومحمدة ، بالكسر والفتح ، وقاله أيضا ابن سيده .

                                                                                              وقال بعضهم : إن المحامد جمع حمد على غير قياس ; كالمفاقر جمع فقر ، والأول أولى ; لأن ما ليس بقياس لا يقاس عليه ; إذ الجمع بينهما متناقض ، وقد جمع الحمد جمع القلة في قول الشاعر :


                                                                                              وأبلج محمود الثنايا خصصته بأفضل أقوالي وأفضل أحمد



                                                                                              و (قوله : التي لا يبلغ منتهاها ) أي : لعجز البشر عن الإحصاء ; لقصور علمهم [ ص: 87 ] عن الإحاطة بصفات الحق تعالى وأسمائه ; كما قال - عليه الصلاة والسلام - : " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " .

                                                                                              و " الآلاء " : النعم ، واحده : إلى ; كمعى وأمعاء ، وقيل : ألى ; كقفا وأقفاء ; قال الشاعر :


                                                                                              أبيض لا يرهب الهزال ولا يقطع رحما ولا يحوز إلى

                                                                                              يروى بالوجهين ، وقيل : إلي ; كحسي وأحساء .

                                                                                              و (قوله : " وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ") أي : أنطق بما أعلمه وأتحققه .

                                                                                              وأصل الشهادة : الإخبار عما شاهد المخبر بحسه ، ثم قد يقال على ما يحققه الإنسان ويتقنه وإن لم يكن شاهدا للحس ; لأن المحقق علما كالمدرك حسا ومشاهدة .

                                                                                              و (قوله : " شهادة محقق أصولها ، محيط بمعناها ") :

                                                                                              أصول الشهادة : أدلتها العقلية والسمعية .

                                                                                              والإحاطة تعني هاهنا : العلم بمعناها في اللغة ، وفي عرف الاستعمال .

                                                                                              و " محمد " : مفعل من الحمد ، وهو الذي كثرت خصاله المحمودة ; قال الشاعر :


                                                                                              . . . . . إلى الماجد القرم الجواد المحمد

                                                                                              ولما لم يكن في الأنبياء ولا في الرسل من له من الخصال المحمودة ما [ ص: 88 ] لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ، خصه الله من بينهم بهذا الاسم ; كيف لا ، وهو الذي يحمده أهل المحشر كلهم ، وبيده لواء الحمد ، تحته آدم فمن دونه ; على ما يأتي ؟!

                                                                                              و " الربا " : جمع ربوة ، وهو ما ارتفع من الأرض وطاف ، وفيها لغات : فتح الراء وضمها وكسرها ، وقد قرئ بها .

                                                                                              وقيل : رباوة : بفتح الراء وزيادة الألف ، قال الشاعر :


                                                                                              من منزلي في عرصة برباوة بين النخيل إلى بقيع الغرقد

                                                                                              و " النبوة " : مأخوذة من النبأ ، وهو الخبر ، فأصلها إذا الهمز ، ثم سهلت كما سهلوا خابية ، وهي من خبأت ، وقيل : هي مأخوذة من النبوة ، وهو المرتفع عن الأرض .

                                                                                              و " الأعباء " : جمع عبء ، وهو الثقل ، وأصله : ما يحمله الإنسان مما يشق ويثقل من عزم أو مشقة .

                                                                                              و " إدها " : أثقلها وأشقها ; في " الصحاح " : آدني الحمل يؤودني ، أي : أثقلني ، ومؤدد مثل مقول ، يقال : ما آدني فهو لي آئد .

                                                                                              قلت : ومنه قوله تعالى : ولا يئوده حفظهما [ البقرة: 255 ] أي : لا يثقله ولا يشق عليه .

                                                                                              و (قوله : " فاضطلع بها ") أي : قام بها وقوي عليها ، وهو بالضاد المعجمة أخت الصاد ; من قولهم : ضلع الرجل - بضم اللام - ضلاعة ، فهو ضليع ، أي : قوي وصلب . فأما ضلع - بفتح اللام - فمعناه : اعوج ، ومصدره : الضلع بفتحها ، واسم الفاعل من هذا أو من الذي قبله : ضالع .

                                                                                              و " جلا " معناه : كشف ، ومنه : جلوت السيف والعروس جلاء .

                                                                                              و " البصائر " : جمع بصيرة ، وهي عبارة عن سرعة إدراك المعاني وجودة فهمها .

                                                                                              [ ص: 89 ] و " رين " القلب : ما يغلب عليه مما يفسده ويقسيه ، وهو المعبر عنه بالطبع والختم في قول أهل السنة .

                                                                                              و " العشا " بفتح العين والقصر : ضعف في البصر ، وبكسرها والمد : الوقت المعروف ، وبفتحها والمد : ما يؤكل في هذا الوقت ، مقابل الغداء .

                                                                                              و " أزكاها " : أكثرها وأنماها ; من قولهم : زكا الزرع يزكو .

                                                                                              و " التحيات " : جمع تحية ; وهي هنا السلام ، وأصل التحية : الملك ، ومنه قولهم : حياك الله ، أي : ملكك الله ، قاله القتبي .

                                                                                              و " العترة " : الذرية والعشيرة ، القربى والبعدى ، وليس مخصوصا بالذرية ; كما قد ذهب إليه بعضهم حتى قال : إن عترة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي ولد فاطمة خاصة .

                                                                                              ويدل على صحة القول الأول : قول أبي بكر - رضي الله عنه - فيما رواه ابن قتيبة : " نحن عترة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي خرج منها ، وبيضته التي تفقأت عنه ، وإنما جيبت عنا كما جيبت الرحا عن قطبها " .

                                                                                              و " سفرت " : كشفت ، يقال : سفرت الشيء سفرا كشفته ; ومنه سفرت المرأة عن وجهها سفورا : إذا أزالت خمارها ، وأما أسفر الصبح : فأضاء ، وأسفر القوم : ساروا في إسفار من الصبح .

                                                                                              و " الضحى " : صدر النهار ، بالضم والقصر ، وهي حين شروق الشمس ، وهي مؤنثة ، فأما الضحاء ، بالمد : فارتفاع النهار الأعلى ، وهو مذكر ; قاله أبو عبيد .

                                                                                              و " النتائج " جمع نتيجة ، وكني بها هنا عن البراهين العقلية ، فإنها قضت بما ذكرناه جوازا وإمكانا .

                                                                                              و " أدلة الشرع " : هي أخباره الصادقة ; فإنها قضت بذلك وقوعا وعيانا .

                                                                                              [ ص: 90 ] و " سعادة الدارين " : هي نيل مراتبهما ومصالحهما ، ونفي مفاسدهما .

                                                                                              و " منوطة " : معلقة ، يقال : ناط الشيء ينوطه : إذا علقه ; والإشارة به إلى نحو قوله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ آل عمران : 31 ] والهداية الحقيقية هي فعل الطاعات الشرعية ، والحصول على ما وعد عليها من الدرجات الأخروية ; والإشارة إلى نحو قوله تعالى : وإن تطيعوه تهتدوا [ النور : 54 ] ; وتجوز بالحقيقة عن الهداية التي هي مجرد الإرشاد والدلالة التي هي نحو قوله تعالى : وأما ثمود فهديناهم [ فصلت : 17 ] .

                                                                                              و " الاقتفاء " : التتبع ; من قولهم : اقتفيت أثره وقفوته ، وأصله من القفا والقافية .

                                                                                              و (قوله : " واجبة الحصول ") أي : بحسب الوعد الصدق والاشتراط الحق ; نحو ما تقدم . ولا يجب على الله تعالى شيء ، لا بالعقل ولا بالشرع ; فإن ذلك كله محال على ما يعرف في علم الكلام .

                                                                                              و " الأعلام " : المشاهير ، جمع علم .

                                                                                              و " السادة " : جمع سيد ، وهو الذي يسود غيره ، أي : يتقدم عليه بما فيه من خصال الكمال والشرف . وآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - : هي ما يؤثر عنه وينقل ، أي : يتحدث بما فيه من حسن خصال الكمال من قولهم : أثرت الحديث أثرة .

                                                                                              و (قوله : " وميزوا صحيحه من سقيمه ") : اختلفت عبارات المحدثين في أقسام الحديث ، فقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري : وهو المعروف بابن [ ص: 91 ] البيع في كتاب " المدخل " له : الصحيح من الحديث على عشرة أقسام : خمسة متفق عليها ، وخمسة مختلف فيها :

                                                                                              فالأول : من المتفق عليه : اختيار البخاري ومسلم ، وهو ألا يذكرا من الحديث إلا ما رواه صحابي مشهور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، له راويان فأكثر ، ثم يرويه عنه تابعي مشهور الرواية عن الصحابة ، له هو أيضا راويان فأكثر ; وكذلك من بعدهم ، حتى ينتهي الحديث إليهما .

                                                                                              قال : والأحاديث المروية بهذه الشريطة لا يبلغ عددها عشرة آلاف .

                                                                                              الثاني : مثل الأول ; لكن ليس لراويه من الصحابة إلا راو واحد .

                                                                                              الثالث : مثله ; إلا أن راويه ليس له من التابعين إلا راو واحد .

                                                                                              الرابع : الأحاديث الأفراد الغرائب التي رواها الثقات العدول .

                                                                                              الخامس : أحاديث جماعة من الأئمة عن آبائهم عن أجدادهم ، ولم تتواتر الرواية عن آبائهم وأجدادهم إلا عنهم ; كصحيفة عمرو بن شعيب ، وبهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، وأبان بن معاوية بن قرة ، عن أبيه ، عن جده ، وأجدادهم صحابة ، وأحفادهم ثقات .

                                                                                              قال : فهذه الأقسام الخمسة مخرجة في كتب الأئمة ، محتج بها ; وإن لم يخرج في الصحيحين منها شيء . قلت : يعني غير القسم الأول .

                                                                                              قال الحاكم : والخمسة المختلف فيها : المراسيل . وأحاديث المدلسين إذا لم يذكروا سماعاتهم ، وما أسنده ثقة وأرسله جماعة من الثقات غيره . ورواية الثقات عن الحفاظ العارفين . ورواية المبتدعة إذا كانوا صادقين .

                                                                                              قلت : هذا تلخيص ما ذكره ، وعليه فيه مؤاخذات سيأتي بعضها .

                                                                                              وأشبه من تقسيمه : ما قاله الخطابي أبو سليمان ، قال : الحديث عند أهله على ثلاثة أقسام : صحيح ، وحسن ، وسقيم :

                                                                                              فالصحيح : ما اتصل سنده ، وعدلت نقلته .

                                                                                              والحسن : ما عرف مخرجه ; [ ص: 92 ] واشتهر رجاله ; وعليه مدار أكثر الحديث ، وهو الذي نقله العلماء ، ويستعمله عامة الفقهاء .

                                                                                              والسقيم : على طبقات ، شرها الموضوع والمقلوب ، ثم المجهول .

                                                                                              وقال أبو عيسى الترمذي : كل حديث حسن إسناده ، ولا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ، ولا يكون الحديث شاذا ، وروي عن غير وجه ونحو ذلك : فهو عندنا حسن .

                                                                                              وقال أبو علي الغساني : الناقلون سبع طبقات :

                                                                                              الأولى : أئمة الحديث وحفاظه ، وهم الحجة على من خالفهم ، ويقبل انفرادهم .

                                                                                              الثانية : دونهم في الحفظ والضبط ; ولكنهم لحقهم في بعض روايتهم وهم وغلط . والغالب على حديثهم الصحة ، ويصحح ما وهموا فيه من رواية الطبقة الأولى ، وهم لاحقون بهم .

                                                                                              الثالثة : جنحت إلى مذاهب من الأهواء غير غالية ولا داعية ، وصح حديثها ، وثبت صدقها ، وقل وهمها ; فهذه الطبقة احتمل أهل الحديث الرواية عنهم .

                                                                                              قال : وعلى هذه الطبقات الثلاث يدور الحديث ; وإليها أشار مسلم في صدر كتابه لما قسم الحديث على ثلاثة أقسام ، وثلاث طبقات ، فلم يقدر له إلا الفراغ من الطبقة الأولى ، واخترمته المنية .

                                                                                              وثلاث طبقات أسقطهم أهل المعرفة :

                                                                                              الأولى : من وسم بالكذب ، ووضع الحديث .

                                                                                              الثانية : من غلب عليهم الوهم والغلط حتى تستغرق روايتهم .

                                                                                              الثالثة : من غلا في البدعة ، ودعا إليها ، وحرف الرواية ليحتجوا بها .

                                                                                              والسابعة : قوم مجهولون ، انفردوا بروايات لم يتابعوا عليها ; فقبلهم قوم ، ووقفهم آخرون .

                                                                                              قلت : وهذا التقسيم أشبه مما قبله .

                                                                                              [ ص: 93 ] وعليه : فالصحيح : حديث الطبقة الأولى ، والحسن : حديث الطبقة الثانية ، وهو حجة ; لسلامته عن القوادح المعتبرة ، وأما حديث الطبقة الثالثة : فاختلف في حديثها ; على ما يأتي .

                                                                                              وأما الطبقات الثلاث بعدها فهم متروكون ، ولا يحتج بشيء من حديثهم ، ولا يختلف في ذلك .

                                                                                              ويلحق بهم السابعة في الترك ، ولا يبالى بقول من قبلهم ; إذ لا طرائق إلى ظن صدقهم ; إذ لا تعرف روايتهم ولا أحوالهم ; ومع ذلك فقد أتوا بالغرائب والمناكير ، فإحدى العلتين كافية في الرد ، فكيف إذا اجتمعتا ؟!

                                                                                              و (قوله : " ومعوجه من مستقيمه ") : أشار بالمعوج إلى ما كان منها منكر المتن ، ولم يشبه كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ; كما قال أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب " العلل المتناهية في الأحاديث الواهية " : إن من الأحاديث الموضوعات أحاديث طوالا لا يخفى وضعها ، وبرودة لفظها ; فهي تنطق بأنها موضوعة ، وأن حاشية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترق عنها .

                                                                                              وقال الشيخ : وإلى هذا النحو أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " إذا حدثتم عني بحديث تعرفونه ولا تنكرونه ، فصدقوا به ، وما تنكرونه ، فكذبوا به ; فأنا أقول ما يعرف ولا ينكر ، ولا أقول ما ينكر ولا يعرف ; خرجه الدارقطني ; من حديث ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة .

                                                                                              و " المبرز " : هو المطل على الشيء الخارج عنه ، وهو اسم فاعل من برز [ ص: 94 ] مشدد الراء ، وأصله من برز حقيقة ، بمعنى : خرج إلى البراز - بفتح الباء - ، وهو الفضاء المتسع من الأرض ، وضوعف تكبيرا .

                                                                                              " البخاري " : هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه ، وبردزبه : مجوسي مات عليها ، والمغيرة بن بردزبه أسلم على يدي يمان البخاري الجعفي والي بخارى ، ولذلك نسب أبو عبد الله البخاري ، فقيل فيه : جعفي ، فهو الجعفي ولاء ، والبخاري بلدا . وهو العلم المشهور ، والحامل لواء علم الحديث المنشور ، صاحب التاريخ الصحيح ، المرجوع إليه في علم التعديل والتجريح ، أحد حفاظ الإسلام ، ومن حفظ الله به حديث رسوله عليه الصلاة والسلام ، رحل في طلب الحديث إلى القرى والأمصار ، وبالغ في الجمع منه والإكثار ، لقي من كان في عصره من العلماء والمحدثين ، وأدرك جماعة أدركوا التابعين ; كمكي بن إبراهيم البلخي ، وأبي عاصم النبيل ، ومحمد بن عبد الله الأنصاري ، وعصام بن خالد الحمصي ، وهم أدركوا متأخري التابعين . ارتحل إلى عراق العرب والعجم ، وإلى مصر والحجاز واليمن ، وسمع بها من خلق كثير ربما يزيدون على الألف باليسير . قال جعفر بن محمد بن القطان : سمعت محمد بن إسماعيل يقول : كتبت عن ألف شيخ أو أكثر ، ما عندي حديث إلا أذكر إسناده .

                                                                                              روى عنه جمع كبير من الأئمة الحفاظ ; كأبي حاتم الرازي ، ومسلم بن الحجاج القشيري ، وأبي عيسى الترمذي ، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ، وأبي حامد بن الشرقي ، وإبراهيم بن إسحاق الحربي ، في آخرين يطول ذكرهم .

                                                                                              وروى عنه الجامع الصحيح : أبو حيان مهيب بن سليم الدقاق ، وإبراهيم بن معقل النسفي ، ومحمد بن يوسف بن مطر الفربري ، وهو آخرهم ، وقال محمد بن يوسف الفربري : سمع كتاب البخاري تسعون ألف رجل ، فما بقي أحد يرويه غيري .

                                                                                              ومولد البخاري يوم الجمعة بعد صلاتها لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال [ ص: 95 ] سنة أربع وتسعين ومائة ، وتوفي ليلة السبت عند صلاة العشاء من ليلة الفطر من شوال ، سنة ست وخمسين ومائتين ، وعمره : اثنتان وستون سنة إلا ثلاثة عشر يوما .

                                                                                              شهد له أئمة عصره بالإمامة في حفظ الحديث ونقله ، وشهدت له تراجم كتابه بفهمه وفقهه .

                                                                                              قال أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة : ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من البخاري .

                                                                                              وقال له مسلم بن الحجاج ، وقد سأله عن علل الأحاديث ، فأجابه ، فقال له : لا يبغضك إلا حاسد ، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك .

                                                                                              وقال أبو بكر الجوزقي : سمعت أبا حامد بن الشرقي أو غيره يقول : رأيت مسلم بن الحجاج بين يدي البخاري كالصبي بين يدي معلمه .

                                                                                              وقال حامد بن أحمد : ذكر لعلي بن المديني قول محمد بن إسماعيل البخاري : ما تصاغرت نفسي عند أحد إلا عند علي ابن المديني ، فقال : ذروا قوله هو ، ما رأى مثل نفسه .

                                                                                              وذكر أبو أحمد بن عدي : أن البخاري لما قدم بغداد امتحنه المحدثون بأن قلبوا أسانيد مائة حديث ، فخالفوا بينها وبين متونها ، ثم دفعوها لعشرة أنفس ، لكل واحد عشرة أحاديث ، فلما استقر به المجلس ، قام إليه واحد من العشرة ، فذكر له حديثا من عشرته المقلوبة ، فسأله عنه ، فقال له البخاري : لا أعرف هذا . ثم سأله عن بقية العشرة واحدا واحدا ، وهو في كل ذلك يقول : لا أعرف . ثم قام بعده ثان ففعل له مثل ذلك ، ثم قام ثالث كذلك ، حتى كمل العشرة المائة الحديث . فلما فرغوا ، دعا بالأول ، فرد ما ذكر له من الأحاديث إلى أسانيدها ، ثم فعل ببقية العشرة كذلك ، إلى أن رد كل متن إلى سنده ، وكل سند إلى متنه ، فبهت الحاضرون ، وأعجب بذلك السامعون ، وسلموا لحفظه ، واعترفوا بفضله .

                                                                                              وقال الدارقطني : لولا البخاري ما ذهب مسلم ولا جاء .

                                                                                              وقال أحمد بن محمد الكرابيسي : رحم الله الإمام أبا عبد الله البخاري ، فإنه الذي ألف الأصول ، وبين للناس ، وكل من عمل بعده فإنما أخذه من كتابه ; كمسلم بن الحجاج ، فرق كتابه في [ ص: 96 ] كتبه ، وتجلد فيه حق الجلادة ، حيث لم ينسبه إلى قائله ، ومنهم من أخذ كتابه فنقله بعينه ; كأبي زرعة ، وأبي حاتم .

                                                                                              فقال محمد بن الأزهر السجزي : كنت بالبصرة في مجلس سليمان بن حرب ، والبخاري جالس لا يكتب ، فقال بعضهم : ما له لا يكتب ؟ فقال : يرجع إلى بخارى فيكتب من حفظه .

                                                                                              وقال محمد بن حمدويه : سمعت البخاري يقول : أحفظ مائة ألف حديث صحيح ، وأعرف مائتي ألف حديث غير صحيح .

                                                                                              وأخباره كثيرة ، ومناقبه شهيرة ، وإمامته وعدالته وأمانته متواترة ، كل ذلك من حاله معروف ، ومن فضله موصوف .

                                                                                              والعجب مما ذكره أبو محمد بن أبي حاتم في ترجمة البخاري ، فقال : إن أبي وأبا زرعة تركاه - يعني البخاري - لأنه قال : لفظي بالقرآن مخلوق ، ولم ينقل شيئا من فضائله ، وكأنه أعرض عنه وصغر أمره .

                                                                                              قلت : وهذا ترك يجب تركه ، وتصغير يتعين ضده ، كيف ينزل مثل هذا الإمام ، لحق أظهره في الأنام ، وتطاع فيه أهواء الطغام ؟!

                                                                                              وقد ذكر ابن عدي هذه القصة ، فقال : عقد له المجلس بنيسابور ، فدس عليه سائل ، فقال : يا أبا عبد الله ، ما تقول : لفظي بالقرآن مخلوق ؟ فأعرض عنه ، فألح عليه ، فقال : القرآن قد تم غير مخلوق ، وأفعال العباد مخلوقة ، والسؤال عنه بدعة .

                                                                                              وهذا الذي قاله - رضي الله عنه - هو غاية التحقيق والتحرز ، ولكن نسأل الله العافية من إصابة عين الحساد ، ومناكدة الأضداد ولا شك ، إلا أن الرجل علم فضله ، وكثر الناس عليه فحسد .

                                                                                              قال علي بن صالح بن محمد البغدادي مستملي البخاري : كان يجتمع في مجلس البخاري أكثر من عشرين ألفا .

                                                                                              قال المصعب : محمد بن إسماعيل أفقه عندنا من أحمد بن حنبل ، ولو أدركت مالكا ونظرت إلى وجهه ، ووجه محمد بن [ ص: 97 ] إسماعيل ، لقلت : كلاهما في الفقه والحديث واحد .

                                                                                              وقال يعقوب بن إبراهيم الدورقي : محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأمة .

                                                                                              وأما " مسلم " : فيكنى أبا الحسين بن الحجاج ، قشيري النسب ، نيسابوري الدار .

                                                                                              وقد ذكر في صدر الكتاب الملخص - الذي هذا شرحه - من أقوال العلماء في مسلم من الثناء عليه وعلى كتابه : جملة صالحة ، بحيث إذا قوبلت بما قيل في البخاري وفي كتابه كانت مكافئة لها أو راجحة عليها .

                                                                                              والحاصل من معرفة أحوالهما أنهما فرسا رهان ، وأنهما ليس لأحد في حلبتهما بمسابقتهما ولا مساوقتهما يدان . سمع مسلم بخراسان ، وارتحل إلى العراق والحجاز والشام ومصر كارتحال البخاري .

                                                                                              وسمع من يحيى بن يحيى التميمي ، وقتيبة بن سعيد البلخي ، وإسحاق بن راهويه ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، والقعنبي ، ومسلم بن إبراهيم ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، ومحمد بن بشار ، ومحمد بن المثنى ، وخلقا كثيرا يطول ذكرهم .

                                                                                              روى عنه : إبراهيم بن سفيان الزاهد المروزي ، وأبو محمد أحمد بن علي بن الحسن القلانسي ، ولا يروى كتابه إلا من طريقهما . وروى عنه أيضا : مكي بن عبدان ، ويحيى بن محمد بن صاعد ، ومحمد بن مخلد ، وآخرون .

                                                                                              توفي عشية يوم الأحد ، ودفن يوم الإثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين ، وقد وافى سن الكهولة ، مات وهو ابن خمس وخمسين سنة .

                                                                                              و (قوله : " فجمعا كتابيهما على شرط الصحة ") : هذا هو الصحيح الحاصل من أشراط البخاري ومسلم في كتابيهما . قال إبراهيم بن معقل : سمعت البخاري [ ص: 98 ] يقول : ما أدخلت في كتاب " الجامع الصحيح " إلا ما صح ، وقد تركت من الصحيح خوفا من التطويل .

                                                                                              وقال أبو الفرج بن الجوزي : ونقل عن محمد بن إسماعيل أنه قال : صنفت كتاب الصحيح في ست عشرة سنة من ستمائة ألف حديث ، وجعلته حجة بيني وبين الله تعالى .

                                                                                              وقال لي الفربري : قال لي محمد بن إسماعيل : ما وضعت في كتاب " الصحيح " حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك ، وصليت ركعتين .

                                                                                              وقال عبد القدوس بن هشام : سمعت عشرة من المشايخ يقولون : دون محمد بن إسماعيل تراجم جامعه بين قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين منبره ، وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين .

                                                                                              وقال الحسين بن محمد الماسرجسي : سمعت أبي يقول : سمعت مسلم بن الحجاج يقول : صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة .

                                                                                              وقال إبراهيم بن سفيان : قال لي مسلم : ليس كل صحيح وضعت هنا ، وإنما وضعت ما أجمعوا عليه .

                                                                                              فهذه نصوصهما على أن شرطهما إنما هو الصحيح فقط .

                                                                                              وأما ما ادعاه الحاكم عليهما من الشرط الذي قدمنا حكايته عنهما : فشيء لم يصح نقله عنهما ، ولا سلم له النقاد ذلك ; بل قد قال أبو علي الجياني لما حكى عنه ما ادعاه من الشرط : ليس مراده به أن يكون كل خبر روياه يجتمع فيه راويان عن صحابييه وتابعييه ومن بعده ; فإن ذلك يعز وجوده ، وإنما المراد : أن هذا الصحابي وهذا التابعي قد روى عنه رجلان خرج بهما عن حد الجهالة .

                                                                                              قلت : فقد بطل ظاهر ما قاله الحاكم بما قاله أبو علي ; فإن حاصل ما قاله أبو علي : أنهما لم يخرجا عن مجهول من الرواة ، على أن أبا أحمد بن عدي ذكر شيوخ البخاري ، وذكر منهم أقواما لم يرو عنهم إلا راو واحد ، وسماهم عينا عينا ، وقال : لم يرو عنهم إلا راو واحد ، وليسوا بمعروفين ، فلولا التطويل لنقلنا عنه ما قاله .

                                                                                              وعلى هذا : فشرطهما : أن يخرجا في كتابيهما ما صح عندهما وفي ظنونهما ، ولا يلزم من [ ص: 99 ] ذلك نفي المطاعن عن كل من تضمنه كتاباهما ; فقد يظهر لغيرهما من النقاد ما خفي عنهما ، لكن هذا المعنى المشار إليه قليل نادر لا اعتبار به لندوره .

                                                                                              و (قوله : " وبذلا جهدهما في تبرئتهما من كل علة ") : الجهد ، بضم الجيم : الطاقة والوسع ، وبفتحها : المشقة ، ويعني بذلك : أنهما قد اجتهدا في تصحيح أحاديث كتابيهما غاية الاجتهاد ، غير أن الإحاطة والكمال ، لم يكملا إلا لذي العظمة والجلال ، فقد خرج النقاد - كأبي الحسن الدارقطني وأبي علي الجياني - عليهما في كتابيهما أحاديث ضعيفة وأسانيد عليلة ، لكنها نادرة قليلة ، وليس فيها حديث متفق على تركه ، ولا إسناد مجمع على ضعفه ، لكنها مما اختلف فيه ، ولم يلح لواحد منهما في شيء منها قدح فيخفيه ، بل ذلك على حسب ما غلب على ظنه ، وحصل في علمه ، وأكثر ذلك مما أردفاه على إسناد صحيح قبله ; زيادة في الاستظهار ، وتنبيها على الإشهار ، والله أعلم .

                                                                                              وسيأتي التنبيه على بعض تلك الأحاديث ، إن شاء الله تعالى .

                                                                                              (فقوله : " فتم لهما المراد ، وانعقد الإجماع على تلقيبهما باسم الصحيحين أو كاد ") : هذه " أو كاد " : معطوفة على " تم لهما المراد " ، وتحرزنا بها عن الأحاديث المعللة المنتقدة عليهما ; كما ذكرناه آنفا .

                                                                                              وأما انعقاد الإجماع على تسميتهما بالصحيحين : فلا شك فيه ; بل قد صار ذكر " الصحيح " علما لهما ، وإن كان غيرهما بعدهما قد جمع الصحيح واشترط الصحة ; كأبي بكر الإسماعيلي الجرجاني ، [ ص: 100 ] وأبي الشيخ ابن حيان الأصبهاني ، وأبي بكر البرقاني ، والحاكم أبي عبد الله ، وإبراهيم بن حمزة ، وأبي ذر الهروي ، وغيرهم ، لكن الإمامان أحرزا قصب السباق ، ولقب كتاباهما بالصحيحين بالاتفاق ; قال أبو عبد الله الحاكم : أهل الحجاز والعراق والشام يشهدون لأهل خراسان بالتقدم في معرفة الحديث ; لسبق الإمامين : البخاري ومسلم إليه ، وتفردهما بهذا النوع .

                                                                                              و " الجهابذة " : جمع جهبذ ، وهو : الحاذق بالعمل ، الماهر فيه .

                                                                                              وقول مسلم : ليس كل الصحيح وضعت هنا ، وإنما وضعت ما أجمعوا عليه ، يعني به - والله أعلم - : من لقيه من أهل النقد والعلم بالحديث ، والله أعلم .

                                                                                              [ ص: 101 ] و (قوله : " وميز طبقات المحدثين في القديم والحديث ") : يعني بالقديم : من تقدم زمان مسلم ، وبالحديث : زمان من أدركه .

                                                                                              وهذا إشارة إلى قول مسلم في صدر كتابه : أنه يعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيقسمها على ثلاثة أقسام ، وثلاث طبقات ، قال : أما القسم الأول ، فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى ; من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث ، وإتقان لما نقلوا ، لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد ، ولا تخليط متفاحش .

                                                                                              [ ص: 102 ] وإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف ، أتبعناها أخبارا في إسنادها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان ، كالضرب المتقدم ، على أنهم - وإن كانوا فيما وصفنا دونهم - فإن اسم الستر وتعاطي العلم والصدق يشملهم ; كعطاء بن السائب ، ويزيد بن أبي زياد ، وليث بن أبي سليم ، فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان والاستقامة في الرواية ، يفضلونهم في المنزلة والحال ; ألا ترى أنك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة ، عطاء ، ويزيد ، وليثا ، بمنصور بن المعتمر وسليمان الأعمش ، وإسماعيل بن أبي خالد ، وجدتهم مباينين لهم في المنزلة لا يدانونهم ، لا شك عند العلماء في ذلك . وذكر كلاما في معناه إلى أن قال : فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون ، أو عند الأكثر ، فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم ; كعبد الله بن مسور أبي جعفر المدايني ، وعمرو بن خالد ، وعبد القدوس الشامي ، ومحمد بن سعيد المصلوب ، وغياث بن إبراهيم ، وسليمان بن عمرو ، وأبي داود النخعي وأشباههم ممن اتهم بوضع الحديث ، وتوليد الأخبار ، وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط ، أمسكنا عنهم .

                                                                                              قال المؤلف رحمه الله تعالى : وظاهر هذا أن مسلما أدخل في كتابه الطبقتين المتقدمتين : الأولى والثانية ، غير أن أبا عبد الله الحاكم قال : إن مسلما لم يدخل في كتابه إلا أحاديث الطبقة الأولى فقط ، وأما الثانية والثالثة : فكان قد عزم على أن يخرج حديثهما ، فلم يقدر له إلا الفراغ من الطبقة الأولى ، واخترمته المنية .

                                                                                              قال المؤلف رحمه الله تعالى : ومساق كلامه لا يقبل ما قاله الحاكم ; فتأمله .

                                                                                              [ ص: 103 ] و (قوله : " وثافنت في التفقه فيه بعض سادات الفقهاء ") أي : جالست ، وأصله من الثفنات ، وهو ما يتناثر من الرجلين والركبتين واليدين من تكرار الجلوس والعمل ; يقال : ثفنت اليد ثفنا : غلظت من العمل ، وواحد الثفنات : ثفنة ، وأصلها : ما يقع من البعير على الأرض ، ويغلظ عند الإشاخة .

                                                                                              [ ص: 104 ] و (قولنا : " وقد رويته عن غير واحد من الثقات الأعلام ، قراءة وإجازة ") : أعني بذلك : أني قرأته كله على الشيخ الفقيه الزاهد الفاضل ، تقي الدين أبي إبراهيم عوض بن محمود ، بمصر .

                                                                                              وممن أجازه لي : الشيخ الفقيه المحدث ، الزاهد التلاء للقرآن ، أبو الحسين مرتضى بن العفيف المقدسي ، لقيته بقرافة مصر ، وسمعت عليه ، وقرأت عليه ، وأجاز لي جميع رواياته .

                                                                                              ومنهم : القاضي فخر القضاة أبو الفضل بن الحباب ، أجازه لي .

                                                                                              وكلهم يحدث به عن الشيخ أبي المفاخر المأموني بالسند المذكور في أصل " التلخيص " .

                                                                                              [ ص: 105 ] فاستعنت بالله تعالى ، وبادرت إلى مقتضى الإشارة ; بعد أن قدمت في ذلك دعاء النفع به والاستخارة ، فاقتصرت من الإسناد على ذكر الصاحب إلا أن تدعو الحاجة إلى ذكر غيره فأذكره لزيادة فائدة ; وحصول عائدة ، ومن تكرار المتون على أكملها مساقا ، وأحسنها سياقا ، ملحقا به ما في غيره من الرواية ; محافظا إن شاء الله تعالى ألا أغفل منه شيئا من مهمات الفوائد ; فإذا قلت : عن أبي هريرة مثلا ، وأفرغ من مساق متنه ، وقلت : وفي رواية ; فأعني : أنه عن ذلك الصاحب المتقدم من غير ذلك الطريق . وربما قدمت بعض الأحاديث وأخرت حيثما إليه اضطررت ; حرصا على ضم الشيء لمشاكله ; وتقريبا له على متناوله .

                                                                                              وقد اجتهدت ; فيما رويت ورأيت ; ووجه الله الكريم قصدت ، وهو المسؤول ; في أن ينفعني به وكل من اشتغل به ، ويبلغنا المأمول ، وأن يجعلنا وإياه من العلماء العاملين ; الهداة المهتدين ، وهو المستعان ، وعليه التكلان ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .




                                                                                              الخدمات العلمية