الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              385 (9) باب

                                                                                              ما يستنجى به والنهي عن الاستنجاء باليمين

                                                                                              [ 199 ] عن سلمان ; قال : قيل له : قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخراءة ، قال : فقال : أجل ، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول ، أو أن نستنجي باليمين ، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار ، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم .

                                                                                              وفي رواية : ونهانا عن الروث والرمة .

                                                                                              رواه مسلم ( 262 ) ، وأبو داود ( 7 ) ، والترمذي ( 16 ) ، والنسائي ( 1 \ 38 - 39 ) .

                                                                                              [ ص: 516 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 516 ] (9) ومن باب الاستنجاء

                                                                                              (قوله : " قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة ") هو بكسر الخاء ممدود مهموز ، وهو اسم فعل الحدث ، وأما الحدث نفسه فبغير تاء ممدود ، وتفتح خاؤه وتكسر ، ويقال : بفتحها وسكون الراء والقصر من غير مد .

                                                                                              و (قوله : " أجل ") أي : نعم . قال الأخفش : إلا أنه أحسن من نعم في الخبر ، ونعم أحسن منه في الاستفهام ، وهما لتصديق ما قبلهما مطلقا ، نفيا كان أو إيجابا ، فأما " بلى " فهو جواب بعد النفي عاريا من حرف الاستفهام ، أو مقرونا به . قال الجوهري : بلى ; إيجاب لما يقال لك ; لأنها ترد النفي ، وربما ناقضتها نعم . فإذا قال : ليس لك وديعة . فقولك : نعم ، تصديق له ، وبلى تكذيب له .

                                                                                              و ( قوله : " نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول " ) دليل لمن ذهب إلى منع الاستقبال والاستدبار مطلقا ، وهو أحمد وأبو ثور وأبو حنيفة في المشهور عنه ، وزاد النخعي وابن سيرين : منع استقبال القبلة المتقدمة واستدبارها . وكأن هؤلاء لم يبلغهم حديث ابن عمر الآتي ، أو لم يصلح عندهم للتخصيص ; لأنه فعل في خلوة . وذهب ربيعة وداود : إلى جواز ذلك مطلقا ; متمسكين بحديث ابن عمر ، وبما رواه الترمذي عن جابر قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة ببول ، فرأيته قبل أن يموت بعام يستقبلها " . قال : وقال فيه البخاري : هو صحيح .

                                                                                              [ ص: 517 ] وذهب الشافعي إلى التفريق بين القرى والصحارى تعويلا على أن حديث ابن عمر مخصص لأحاديث النهي . وأما مذهب مالك فهو أنه إذا كان ساتر وكنف ملجئة إلى ذلك جاز ، وإن كان الساتر وحده فروايتان . وسبب هذا الاختلاف : اختلاف هذه الأحاديث ، وبناء بعضها على بعض . وقد أشرنا إلى ذلك . وقد تقدم القول على قوله : " وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار " . والضابط فيما يستنجى به عندنا : كل طاهر منق ، ليس بمطعوم ولا ذي حرمة ، ولا تخفى قيوده .

                                                                                              و (قوله : " برجيع أو بعظم ") الرجيع : العذرة ، والأرواث ، ولا يستنجى بها لنجاستها ، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - لعبد الله بن مسعود حيث أتاه بالحجرين والروثة : " إنها رجس " ، ذكره البخاري . وقد جاء أيضا من حديثه في كتاب أبي داود ما يدل على أنه إنما نهى عن الاستنجاء بها . وبالعظم ; لكونهما زادا للجن . قال : قدم وفد الجن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا محمد ! انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة ; فإن الله جاعل لنا فيها رزقا . وكذلك جاء في البخاري من حديث أبي هريرة قال : فقلت : ما بال العظم والروثة ؟ قال : " هما من طعام الجن ، وإنه أتاني وفد جن نصيبين ، ونعم الجن ، فسألوني الزاد ، فدعوت الله ألا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعاما " ، وفي بعض الحديث : " وأما الروث فعلف دوابهم " .

                                                                                              [ ص: 518 ] ويؤخذ من هذا الحديث : احترام أطعمة بني آدم وتنزيهها عن استعمالها في أمثال هذه القاذورات . ووجه هذا الأخذ أنه إذا منع من الاستنجاء بالعظم والروث ; لأنها زاد الجن وطعامهم ; فأحرى وأولى زاد الإنس وطعامهم .

                                                                                              و " الرمة " العظم البالي ، وقد أطلق عليه أيضا : الحائل ; أي : قد أتت عليه أحوال فحال ، ويمكن جريان العلة المتقدمة في الرمة من حيث هو عظم فيجدون عليها طعاما ، كما قد صح . وقيل : لأنها تتفتت فلا تثبت عند الاستنجاء بها ، ولا يتأتى بها قلع ما هنالك . وقيل : لأنها تصير مثل الزجاج من حيث ملوستها فلا تقلع شيئا .

                                                                                              " والحمم " الفحم ، وعلل بأنه زاد الجن ، وهو أيضا لا صلابة لأكثره ، فيتفتت عند الاستنجاء ، ويلوث الجسد ويسخمه ، والدين مبني على النظافة .

                                                                                              تنبيه :

                                                                                              إن وقع الاستنجاء والإنقاء بالطاهر المنقي المنهي عن الاستنجاء به فإنه يجزئه عندنا . وهل يعيد الصلاة في الوقت أو لا ؟ قولان ، وكذلك مسألة من استنجى بيمينه فإنه أساء وأجزأه . وقال أهل الظاهر : لا يجزئه لاقتضاء النهي فساد المنهي عنه . وعند الجمهور لا يقتضيه ، وأيضا فإن الجمهور صرفوا هذا النهي [ ص: 519 ] إلى غير ذات المنهي عنه ، وهو احترام المطعوم واليمين ، والمطلوب - الذي هو الإنقاء - قد حصل ، فيجزئ عنه . ونهيه في حديث أبي قتادة عن إمساك الذكر باليمين ، وعن التمسح في الخلاء باليمين ، يلزم منهما تعذر . اختلف علماؤنا في كيفية التخلص منه ; فقال المازري : يأخذ ذكره بشماله ثم يمسح به حجرا ليسلم على مقتضى الحديثين . قال الشيخ - رحمه الله - : وهذا إن أمكنه حجر ثابت ، أو أمكنه أن يسترخي فيتمسح بالأرض ; فأما إذا لم يمكنه شيء من ذلك ؟ فقال الخطابي : يجلس على الأرض ويمسك برجليه الشيء الذي يتمسح به ويتناول ذكره بشماله .

                                                                                              قال الشيخ : وقد يكون بموضع لا يتأتى له فيه الجلوس ، فقال عياض : الأولى من ذلك : أن يأخذ ذكره بشماله ، ثم يأخذ الحجر بيمينه ، فيمسكه أمامه ، ويتناول بالشمال تحريك رأس ذكره ، ويمسحه بذلك ، دون أن يستعمل اليمين في غير إمساك ما يتمسح به . قال الشيخ : وهذه الكيفية أحسنها لقلة تكلفها وتأتيها ، ولسلامتها عن ارتكاب منهي عنه ; إذ لم يمسك ذكره باليمين ولم تمسح به ، وإنما أمسك ما يتمسح به .




                                                                                              الخدمات العلمية