الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4390 [ 2293 ] وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال: " عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا، وبين ما عنده فاختار ما عنده". فبكى أبو بكر وبكى فقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا ! قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام، لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر".

                                                                                              رواه أحمد ( 3 \ 18 )، والبخاري (466)، ومسلم (2382).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله صلى الله عليه وسلم: " عبد خيره الله تعالى بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده ") هذا قول فيه إبهام، قصد به النبي صلى الله عليه وسلم اختبار أفهام أصحابه، وكيفية تعلق قلوبهم به، فظهر أن أبا بكر كان عنده من ذلك ما لم يكن عند أحد منهم، ولما فهم من ذلك ما لم يفهموا بادر بقوله: " فديناك بآبائنا وأمهاتنا "، ولذلك قالوا: " فكان أبو بكر أعلمنا ". وهذا يدل من أبي بكر رضي الله عنه على أن قلبه ممتلئ من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومستغرق عنه، وشديد الاعتناء بأموره كلها من أقواله وأحواله بحيث لا يشاركه أحد منهم في ذلك. ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه، وصدر منه في ذلك الوقت ذلك الفهم عنه اختصه بالخصوصية العظمى التي لم يظفر بمثلها بشري في الأولى ولا في الآخرة. فقال: " إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا "، فقد تضمن [ ص: 241 ] هذا الكلام: أن لأبي بكر من الفضائل، والحقوق ما لا يشاركه فيها مخلوق. ووزن أمن: أفعل، من المنة بمعنى الامتنان، أي: أكثر منة، ومعناه: أن أبا بكر رضي الله عنه له من الحقوق ما لو كانت لغيره لامتن بها، وذلك: أنه رضي الله عنه بادر النبي صلى الله عليه وسلم بالتصديق، والناس كلهم مكذبون، وبنفقة الأموال العظيمة، والناس يبخلون، وبالملازمة والمصاحبة، والناس ينفرون، وهو مع ذلك بانشراح صدره، ورسوخ علمه يعلم: أن لله ولرسوله الفضل والإحسان، والمنة والامتنان، لكن النبي صلى الله عليه وسلم بكرم خلقه، وجميل معاشرته اعترف بالفضل لمن صدر عنه، وشكر الصنيعة لمن وجدت منه، عملا بشكر المنعم، ليسن، وليعلم، وهذا مثل ما جرى له يوم حنين مع الأنصار ، حيث جمعهم فذكرهم بما له عليهم من المنن، ثم اعترف لهم بما لهم من الفضل الجميل الحسن، وقد تقدم في الزكاة. وقد ذكر الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه عليها ما خلا أبا بكر ، فإن له عندنا يدا يكافئه الله تعالى بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد كما نفعني مال أبي بكر ... "، وذكر الحديث، وقال: هو حسن غريب.

                                                                                              و (قوله: " ولو كنت متخذا خليلا، لاتخذت أبا بكر خليلا ") متخذا: اسم فاعل من اتخذ، وهو فعل يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بحرف الجر، فيكون [ ص: 242 ] بمعنى: اختار واصطفى، كما قال: واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار [الأعراف: 148] وقد سكت هنا عن أحد مفعوليها، وهو الذي دخل عليه حرف الجر، فكأنه قال: لو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت منهم أبا بكر . ولبسط الكلام في ذلك علم النحو، وحاصله: أن " اتخذ " استعملت على ثلاثة أنحاء:

                                                                                              أحدها: تتعدى لمفعولين بنفسها.

                                                                                              وثانيها: تتعدى لأحدهما بحرف الجر.

                                                                                              وثالثها: تتعدى لمفعول واحد، وكل ذلك موجود في القرآن.

                                                                                              ومعنى هذا الحديث: أن أبا بكر رضي الله عنه كان قد تأهل لأن يتخذه النبي صلى الله عليه وسلم خليلا، لولا المانع الذي منع النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه لما امتلأ قلبه بما تخلله من معرفة الله تعالى، ومحبته، ومراقبته، حتى كأنه مزجت أجزاء قلبه بذلك، لم يتسع قلبه لخليل آخر يكون كذلك فيه، وعلى هذا فلا يكون الخليل إلا واحدا، ومن لم ينته إلى ذلك ممن تعلق القلب به فهو حبيب، ولذلك أثبت لأبي بكر وعائشة - رضي الله عنهما - أنهما أحب الناس إليه، ونفى عنهما الخلة، وعلى هذا فالخلة فوق المحبة، وقد اختلف أرباب القلوب في ذلك، فذهب الجمهور: إلى أن الخلة أعلى، تمسكا بما ذكرناه، وهو متمسك قوي ظاهر، وذهب أبو بكر بن فورك إلى أن المحبة أعلى، واستدل على ذلك: بأن الاسم الخاص بمحمد صلى الله عليه وسلم: الحبيب، وبإبراهيم : الخليل. ودرجة نبينا صلى الله عليه وسلم أرفع، فالمحبة أرفع. وقد ذكر القاضي عياض هذه المسألة في كتاب " الشفا "، واستوفى فيها البحث، فلتنظر [ ص: 243 ] هناك، وقد ذكرنا اختلاف الناس في الخلة في كتاب الإيمان.




                                                                                              الخدمات العلمية