الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4423 [ 2316 ] وعن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: " لأعطين هذه الراية رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله". قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون أن يعطاها، فقال: "أين علي بن أبي طالب؟ ". فقالوا: هو يا رسول الله، يشتكي عينيه، قال: "فأرسلوا إليه". فأتي به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ ! قال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم".

                                                                                              رواه أحمد ( 5 \ 333 )، والبخاري (3009)، ومسلم (2406)، وأبو داود (3661).

                                                                                              [ 2317 ] وعنه قال: استعمل على المدينة رجل من آل مروان قال: فدعا سهل بن سعد فأمره أن يشتم عليا، قال: فأبى سهل، فقال له: أما إذ أبيت فقل: لعن الله أبا التراب، فقال سهل: ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي التراب، وإن كان ليفرح إذا دعي بها، فقال له: أخبرنا عن قصته لم سمي أبا تراب؟ قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد عليا في البيت، فقال: "أين ابن عمك؟ ". فقالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يقل عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: "انظر أين هو؟ ". فجاء فقال: يا رسول الله ! هو في المسجد راقد، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه فأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه، ويقول: "قم أبا التراب! قم أبا التراب!".

                                                                                              رواه البخاري (6280)، ومسلم (2409).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله: " لأعطين الراية رجلا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ") الكلام إلى آخره فيه دليلان على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهي: إخباره عن فتح خيبر، ووقوعه على نحو ما أخبر. وبرء رمد عين علي رضي الله عنه على [ ص: 275 ] فور دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. وفي غير كتاب مسلم : أنه صلى الله عليه وسلم مسح على عيني علي رضي الله عنه ورقاه.

                                                                                              وفيه من الفقه: جواز المدح بالحق إذا لم تخش على الممدوح فتنة . وقد تقدم القول في محبة الله.

                                                                                              وفيه ما يدل: على أن الأولى بدفع الراية إليه من اجتمع له الرئاسة، والشجاعة، وكمال العقل.

                                                                                              و (قوله: " فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها ") أي: يتفاوضون بحيث اختلطت أقوالهم فيمن يعطاها. يقال: بات القوم يدوكون دوكا، أي: في اختلاط ودوران، ووقعوا في دوكة - بفتح الدال وضمها - وإنما فعلوا ذلك حرصا على نيل هذه الرتبة الشريفة، والمنزلة الرفيعة، التي لا شيء أشرف منها.

                                                                                              و ( قول علي رضي الله عنه: " أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ " معناه: حتى يدخلوا في ديننا فيصيروا مثلنا فيه.

                                                                                              و (قوله: " انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ") أي: امض لوجهك مترفقا متثبتا. وقد جاء مفسرا في رواية أخرى قال فيه: " امش ولا تلتفت " وقد تقدم القول في " رسلك ". والساحة: الناحية.

                                                                                              [ ص: 276 ] و (قوله: " ثم ادعهم إلى الإسلام، وأعلمهم بما يجب عليهم من حق الله فيه ") هذه الدعوة قبل القتال، التي تقدم القول فيها في الجهاد، وقد فسرها في الرواية الأخرى في " الأم " قال: " فصرخ علي : يا رسول الله ! على ماذا أقاتل الناس؟ قال: " قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا فقد منعوا منا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله " فهذا هو حق الله المذكور في الرواية المتقدمة.

                                                                                              و (قوله: " فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم ") حض عظيم على تعليم العلم وبثه في الناس، وعلى الوعظ والتذكير بالدار الآخرة والخير، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: " إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير ".

                                                                                              والهداية: الدلالة والإرشاد. والنعم: هي الإبل، وحمرها هي خيارها حسنا وقوة ونفاسة، لأنها أفضل عند العرب، ويعني به - والله أعلم - أن ثواب تعليم رجل واحد، وإرشاده للخير أعظم من ثواب هذه الإبل النفيسة لو كانت لك فتصدقت بها، لأن ثواب تلك الصدقة ينقطع بموتها، وثواب العلم والهدى لا ينقطع إلى يوم القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة " فذكر منها: " علم ينتفع به ". وفي نوم علي رضي الله [ ص: 277 ] عنه في المسجد، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له على ذلك: دليل على جواز ذلك للمتأهل الذي له منزل، وبه قال بعض أهل العلم، وكرهه مالك من غير ضرورة، وأجازه للغرباء؛ لأنهم في حاجة وضرورة، وقد تقدم ذلك في كتاب الصلاة. ومسح النبي صلى الله عليه وسلم جنب علي من التراب، وهو يقول: " قم أبا التراب ، قم أبا التراب " دليل على محبته له، وشفقته عليه، ولطفه به، ولذلك كان ذلك الاسم أحب إلى علي رضي الله عنه من كل ما يدعى به، فيا عجبا من بني أمية كيف صيروا الفضائل رذائل، والمناقب معايب، لكن غلبة الأهواء تعوض الظلمة من الضياء، وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر بإسناده إلى ضرار الصدائي : وقال له معاوية : صف لي عليا ، فقال: اعفني يا أمير المؤمنين ! قال: صفه. قال: أما إذ ولا بد من وصفه، فكان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس من الليل ووحشته، وكان غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويفتينا إذا استفتيناه، ونحن - والله - مع تقريبه إيانا، وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضا على لحيته يتملل تملل السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غري غيري، [ ص: 278 ] ألي تعرضت؟ أم إلي تشوفت، هيهات هيهات ! قد بتتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك قليل، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق، فبكى معاوية ، وقال: رحم الله أبا حسن ! كان والله كذلك، كيف حزنك عليه يا ضرار ؟ قال: حزن من ذبح واحدها في حجرها.

                                                                                              قلت: وهذا الحديث: يدل على معرفة معاوية بفضل علي رضي الله عنه ومنزلته، وعظيم حقه، ومكانته، وعند ذلك يبعد على معاوية أن يصرح بلعنه وسبه، لما كان معاوية موصوفا به من الفضل والدين، والحلم، وكرم الأخلاق، وما يروى عنه من ذلك فأكثره كذب لا يصح. وأصح ما فيها قوله لسعد بن أبي وقاص : ما يمنعك أن تسب أبا التراب ؟ وهذا ليس بتصريح بالسب، وإنما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج ما عنده من ذلك، أو من نقيضه، كما قد ظهر من جوابه، ولما سمع ذلك معاوية سكت، وأذعن، وعرف الحق لمستحقه، ولو سلمنا: أن ذلك من معاوية حمل على السب، فإنه يحتمل أن يكون طلب منه أن يسبه بتقصير في اجتهاد، في إسلام عثمان لقاتليه، أو في إقدامه على الحرب والقتال للمسلمين، وما أشبه ذلك مما يمكن أن يقصر بمثله من أهل الفضل، وأما [ ص: 279 ] التصريح باللعن، وركيك القول، كما قد اقتحمه جهال بني أمية وسفلتهم، فحاش معاوية منه، ومن كان على مثل حاله من الصحبة، والدين، والفضل، والحلم، والعلم، والله تعالى أعلم.




                                                                                              الخدمات العلمية