الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              35 (8) باب

                                                                                              في قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت

                                                                                              [ 19 ] عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه ، قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة ، جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فوجد عنده أبا جهل ، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا عم ، قل : لا إله إلا الله ، كلمة أشهد لك بها عند الله ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب ؟! فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه ، ويعيد له تلك المقالة ، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ، فأنزل الله عز وجل : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم [ التوبة : 113 ] ، وأنزل الله في أبي طالب ، فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين [ القصص : 56 ] .

                                                                                              رواه البخاري ( 4675 ) ، ومسلم ( 24 ) ، والنسائي ( 4 \ 90 - 91 ) .

                                                                                              [ ص: 192 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 192 ] (8) ومن باب قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت

                                                                                              (قوله : " لما حضرت أبا طالب الوفاة ") أبو طالب هذا : هو ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ، وهو عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ووالد علي بن أبي طالب ، واسمه : عبد مناف ، وقيل : اسمه كنيته ، والأول أصح ، واسم عبد المطلب : شيبة ، وكان يقال له : شيبة الحمد ، واسم هاشم : عمرو ، وهاشم لقب له ; لأنه أول من هشم الثريد لقومه . واسم عبد مناف : المغيرة ، واسم قصي : زيد ، وقيل له : مجمع ; لأنه جمع إليه قومه .

                                                                                              وكان والد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عبد الله قد توفي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمل في بطن أمه على الأصح ، فولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ونشأ في كفالة جده عبد المطلب إلى أن توفي ، فكفله عمه أبو طالب ، ولم يزل يحبه حبا شديدا ، ويحوطه ويحفظه إلى أن بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالنبوة ، فنصره أبو طالب وأعانه وأجاره ممن يريد به سوءا ، وقام دونه ، وعادى في حقه قريشا وجميع العرب ، إلى أن ناصبوه القتال وجاهروه بالعداوة والأذى ; وطلبوا أن يسلمه لهم ، فلم يفعل . ثم إن قريشا وجميع أهل مكة تعاقدوا فيما بينهم ، وتحالفوا على هجره وجميع بني هاشم ومقاطعتهم ، وعلى ألا يقاربوهم ، ولا يناكحوهم ، ولا يبايعوهم ، ولا يصلوهم بشيء من وجوه الرفق كلها ، حتى يسلموا إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في الكعبة ، فانحاز أبو طالب وبنو هاشم في شعبهم ، وأقاموا على ذلك نحو ثلاث سنين في جهد جهيد ، وحال شديد ، إلى أن نقض الله أمر الصحيفة ، وأظهر أمر نبيه على ما هو مذكور في كتب [ ص: 193 ] السير . وكان أبو طالب يعرف صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يقوله ، ويقول لقريش : تعلمون والله أن محمدا لم يكذب قط ، ويقول لابنه علي : اتبعه ، فإنه على الحق . غير أنه لم يدخل في الإسلام ، ولم يتلفظ به ، ولم يزل على ذلك إلى أن حضرته الوفاة ، فدخل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طامعا في إسلامه ، وحريصا عليه ، باذلا في ذلك جهده ، مستفرغا ما عنده ، لكن عاقت عن ذلك عوائق الأقدار ، التي لا ينفع معها حرص ولا اقتدار .

                                                                                              و (قوله : " يا عم ، قل : لا إله إلا الله ، كلمة أشهد لك بها عند الله ") أحسن ما تقيد به " كلمة " النصب ; على أن تكون بدلا من لا إله إلا الله ، ويجوز رفعها على إضمار المبتدأ . وأشهد : مجزوم على جواب الأمر ، أي : إن تقل أشهد .

                                                                                              وكل ذلك ترغيب وتذكير لأبي طالب ، وحرص على نجاته ، ويأبى الله إلا ما يريد .

                                                                                              و (قوله : " فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه ، ويعيد له تلك المقالة ") هكذا هو في الأصول وعند أكثر الشيوخ ، ويعني بذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقبل على أبي طالب يعرض عليه الشهادة ، ويكررها عليه .

                                                                                              ووقع في بعض النسخ : ويعيدان له تلك المقالة ، ووجههما : أن أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية أعادا على أبي طالب قولهما له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟! حتى أجابهما إلى ذلك .

                                                                                              و (قوله : " وأبى أن يقول : لا إله إلا الله ، أي : امتنع من قولها .

                                                                                              [ ص: 194 ] و (قوله : " يقولون : إنما حمله على ذلك الجزع ") بالجيم والزاي : صحيح الرواية ; لا يعرف في كتاب مسلم غيرها ، وهو بمعنى : الخوف من الموت .

                                                                                              وفي كتاب أبي عبيد : الخرع - بالخاء المعجمة والراء المهملة - وقال : يعني : الضعف والخور ، وكذلك قال ثعلب وفسره به ، قال شمر : يقال : جزع الرجل ; إذا ضعف ، وكل رخو ضعيف : خريع وخرع ، والخرع : الفصيل الضعيف ، قال : والخرع : الدهش . وفي " الصحاح " : الخرع ، بالتحريك : الرخاوة في الشيء ، وقد خرع الرجل ، بالكسر ، أي : ضعف ، فهو خرع ، ويقال لمشفر البعير إذا تدلى : خريع .




                                                                                              الخدمات العلمية