الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              39 [ 22 ] وعن أبي هريرة ، قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسير ، قال : فنفدت أزواد القوم ، حتى هم بنحر بعض حمائلهم ، قال : فقال عمر : يا رسول الله! لو جمعت ما بقي من أزواد القوم ، فدعوت الله عليها ، قال : ففعل ، قال : فجاء ذو البر ببره ، وذو التمر بتمره ، قال : وذو النواة بنواه ، قلت : وما كانوا يصنعون بالنواة ؟ قال : يمصونه ويشربون عليه الماء ، قال : فدعا عليها ، حتى ملأ القوم أزودتهم ، قال : فقال عند ذلك : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما ، إلا دخل الجنة .

                                                                                              وفي رواية : فجاء عمر فقال : يا رسول الله ، إن فعلت ، قل الظهر ، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم ، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة . وفيها : حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير ، قال : فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبركة ، ثم قال لهم : خذوا في أوعيتكم ، قال : فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوه ، قال : فأكلوا حتى شبعوا ، وفضلت فضلة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك ، فيحجب عن الجنة .

                                                                                              رواه مسلم ( 27 ) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله : " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسير ، فنفدت أزواد القوم ") المسير : السير ، يريد به السفر ، ونفدت : فرغت وفنيت ; ومنه قوله تعالى : لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي [ الكهف : 9 ] .

                                                                                              والحمائل جمع حمولة بفتح الحاء ; ومنه قوله تعالى حمولة وفرشا [ الأنعام : 142 ] ، وهي : الإبل التي تحمل عليها الأثقال ، وتسمى رواحل ; لأنها يرحل عليها ، وتسمى نواضح ; إذا استقي عليها .

                                                                                              والبعير ناضح ، والناقة ناضحة ; قاله أبو عبيد .

                                                                                              [ ص: 198 ] و (قوله : " وذو النواة بنواه " ) كذا الرواية ، ووجهه : وذو النوى بنواه ، كما قال : وذو البر ببره ، وذو التمر بتمره .

                                                                                              و (قوله : " حتى ملأ القوم أزودتهم ") هكذا الرواية ، وصوابه : مزاودهم ; فإنها هي التي تملأ بالأزودة ، وهي جمع زاد ، فسمى المزاود أزودة باسمها ; لأنها تجعل فيها على عادتهم في تسميتهم الشيء باسم الشيء إذا جاوره ، أو كان منه بسبب ، وقد عبر عنها في الرواية الأخرى بالأوعية .

                                                                                              و (قوله : " حتى هم بنحر بعض حمائلهم ") يعني : النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كان هذا الهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - بحكم النظر المصلحي لا بالوحي ; ألا ترى كيف عرض عمر بن الخطاب عليه مصلحة أخرى ، ظهر للنبي - صلى الله عليه وسلم - رجحانها ; فوافقه عليها وعمل بها .

                                                                                              ففيه : دليل على العمل بالصالح ، وعلى سماع رأي أهل العقل والتجارب ، وعلى أن الأزواد والمياه إذا نفدت أو قلت ، جمع الإمام ما بقي منها ، وقوتهم به شرعا سواء ; وهذا كنحو ما مدح به النبي - صلى الله عليه وسلم - الأشعريين ، فقال : الأشعريون إذا قل زادهم ، جمعوه ، فاقتسموه بينهم بالسوية ، فهم مني وأنا منهم ، وسيأتي إن شاء الله تعالى .

                                                                                              و (قوله : " لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما ، فيحجب عن الجنة ") يعني : كلمتي التوحيد المتقدمتين . ويحجب : يمنع ، ورويناه بفتح الباء ورفعها ، فالنصب [ ص: 199 ] بإضمار أن بعد الفاء في جواب النفي ، وهو الأظهر والأجود ، وفي الرفع إشكال ; لأنه يرتفع على أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف تقديره : فهو يحجب ، وهو نقيض المقصود ، فلا يستقيم المعنى حتى تقدر " لا " النافية ، أي : فهو لا يحجب ، ولا تحذف " لا " النافية في مثل هذا ، والله أعلم .

                                                                                              وظاهر هذا الحديث : أن من لقي الله وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده ، دخل الجنة ، ولا يدخل النار ، وهذا صحيح فيمن لقي الله تعالى بريئا من الكبائر . فأما من لقي الله تعالى مرتكب كبيرة ولم يتب منها ، فهو في مشيئة الله تعالى التي دل عليها قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ النساء : 48 ] وقد جاءت الأحاديث الكثيرة الصحيحة المفيدة بكثرتها حصول العلم القطعي : أن طائفة كثيرة من أهل التوحيد يدخلون النار ، ثم يخرجون منها بالشفاعة ، أو بالتفضل المعبر عنه بالقبضة في الحديث الصحيح ، أو بما شاء الله تعالى ، فدل ذلك على أن الحديث المتقدم ليس على ظاهره ، فيتعين تأويله ، ولأهل العلم فيه تأويلان :

                                                                                              [ ص: 200 ] أحدهما : أن هذا العموم يراد به الخصوص ممن يعفو الله تعالى عنه من أهل الكبائر ممن يشاء الله تعالى أن يغفر له ابتداء من غير توبة كانت منهم ، ولا سبب يقتضي ذلك غير محض كرم الله تعالى وفضله ; كما دل عليه قوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ النساء : 48 ] . وهذا على مذهب أهل السنة والجماعة ; خلافا للمبتدعة المانعين تفضل الله تعالى بذلك ، وهو مذهب مردود بالأدلة القطعية العقلية والنقلية ، وبسط ذلك في علم الكلام .

                                                                                              وثانيهما : أنهم لا يحجبون عن الجنة بعد الخروج من النار ، وتكون فائدته الإخبار بخلود كل من دخل الجنة فيها ، وأنه لا يحجب عنها ، ولا عن شيء من نعيمها ، والله تعالى أعلم .




                                                                                              الخدمات العلمية