الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة التاسعة في ذكر قصة داود عليه السلام على الخصوص بالجائز منها دون الممتنع : أما قولهم : إن داود حدث نفسه أن يعتصم إذا ابتلي ففيه ثلاثة أوجه : الأول : أن حديث النفس لا حرج فيه في شرعنا آخرا ، وقد كنا قبل ذلك قيل لنا إنا نؤاخذ به ، ثم رفع الله ذلك عنا بفضله ، فاحتمل أن يكون ذلك مؤاخذا به في شرع من [ ص: 44 ] قبلنا ، وهو أمر لا يمكن الاحتراز منه ، فليس في وقوعه ممن يقع منه نقص ; وإنما الذي يمكن دفعه هو الإصرار بالتمادي على حديث النفس وعقد العزم عليه .

                                                                                                                                                                                                              الثاني أنه يحتمل أن يكون داود عليه السلام نظر من حاله وفي عبادته وخشوعه وإنابته وإخباته ، فظن أن ذلك يعطيه عادة التجافي عن أسباب الذنوب ، فضلا عن التوغل فيها ، فوثق بالعبادة ، فأراد الله تعالى أن يريه أن ذلك حكمه في العبادة واطرادها .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أن هذا النقل لم يثبت ; فلا يعول عليه . وأما قولهم : إن الطائر درج عنده فهم بأخذه ، فدرج فاتبعه ، فهذا لا يناقض العبادة ; لأن هذا مباح فعله لا سيما وهو حلال ، وطلب الحلال فريضة ، وإنما اتبع الطائر لذاته لا لجماله فإنه لا منفعة له فيه ; وإنما ذكرهم لحسن الطائر حذق في الجهالة ، أما إنه قد روي أنه كان طائرا من ذهب فاتبعه ليأخذه لأنه من فضل الله سبحانه ، كما روي في " الصحيح " أن أيوب كان يغتسل عريانا ، فخر عليه رجل من جراد من ذهب ، فجعل يحثي منه ، ويجعل في ثوبه ، فقال له الله : يا أيوب ، ألم أكن أغنيتك عما ترى ، قال : بلى يا رب ، ولكن لا غنى لي عن بركتك " .

                                                                                                                                                                                                              وأما قولهم : إنه وقع بصره على امرأة تغتسل عريانة فلما رأته أرسلت شعرها فسترت جسدها ، فهذا لا حرج عليه فيه بإجماع الأمة ; لأن النظرة الأولى لكشف المنظور إليه ، ولا يأثم الناظر بها .

                                                                                                                                                                                                              وأما قولهم : أنها لما أعجبته أمر بتقديم زوجها للقتل في سبيل الله ، فهذا باطل قطعا ; لأن داود عليه السلام لم يكن ليريق دمه في غرض نفسه ، وإنما كان من الأمر أن داود قال لبعض أصحابه : انزل لي عن أهلك ، وعزم عليه في ذلك ، كما يطلب الرجل من الرجل الحاجة برغبة صادقة كانت في الأهل أو المال ، وقد قال سعيد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف حين آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما : ولي زوجتان ، أنزل لك عن إحداهما ، فقال له : بارك الله لك في أهلك ومالك . وما يجوز فعله ابتداء يجوز طلبه ، وليس في القرآن أن ذلك كان ، ولا أنه تزوجها بعد زوال عصمة الرجل عنها ، ولا ولادتها لسليمان ، فعن من يروي هذا ويسند ؟ وعلى من في نقله يعتمد ، وليس يؤثره عن الثقات الأثبات أحد ؟ أما إن في [ ص: 45 ] سورة الأحزاب نكتة تدل على أن داود قد صارت له المرأة زوجة ، وذلك قوله : { ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل } يعني في أحد الأقوال [ كان ] تزويج المرأة التي نظر إليها ، " كما زوج النبي صلى الله عليه وسلم بعده بزينب بنت جحش " إلا أن تزويج زينب كان من غير سؤال للزوج في فراق ، بل أمره بالتمسك بزوجيتها ، وكان تزويج داود المرأة بسؤال زوجها فراقها ، فكانت هذه المنقبة لمحمد صلى الله عليه وسلم على داود مضافة إلى مناقبه العلية ، ولكن قد قيل : إن معنى قوله تعالى : { سنة الله في الذين خلوا من قبل } تزويج الأنبياء بغير صداق من وهبت نفسها من النساء بغير صداق .

                                                                                                                                                                                                              وقيل : أراد بقوله تعالى : { سنة الله في الذين خلوا من قبل } أن الأنبياء فرض لهم ما يمتثلونه في النكاح وغيره ، وهذا أصح الأقوال .

                                                                                                                                                                                                              وقد روى المفسرون أن داود نكح مائة امرأة ، وهذا نص القرآن .

                                                                                                                                                                                                              وروي أن سليمان كانت له ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية ، وربك أعلم ، وبعد هذا قفوا حيث وقف بكم البيان بالبرهان دون ما تتناقله الألسنة من غير تثقيف للنقل . والله أعلم . .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية