الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              [ ص: 481 ] المسألة الثالثة : روى مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الإملاجة ولا الإملاجتان وهي المصة } . وروى مالك وغيره عن عائشة قالت : كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات فنسخت بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن . فقال بها جماعة منهم الشافعي . ورأى مالك وأبو حنيفة الأخذ بمطلق القرآن ، وهو الصحيح ; لأنه عمل بعموم القرآن وتعلق به ، وقد قوي ذلك بأنه من باب التحريم في الأبضاع والحوطة على الفروج ; فقد وجب القول به لمن يرى العموم ومن لا يراه . وقد رام بعض حذاق الشافعية وهو الإمام الجويني أن يبطل التعلق بهذا العموم ; قال : لأنه سيق ليتبين به وجه التحريم في المحرمات ، ولم يقصد به التعميم ، وإنما يصح القول بالعموم إذا سيق قصدا للعموم ; وذلك يعلم من لسان العرب . قال القاضي : يا لله وللمحققين من رأس التحقيق الجويني ، يأتي بهذا الكلام في غير موضعه ، وقد علم كل ناظر في الفقه شاد أو منته أن المحرمات كلها في الآية جاءت مجيئا واحدا في البيان في مقصود واحد ، فلو جاز لقائل أن يقول : إنه لا يحمل على العموم قوله : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } لما حمل أيضا على العموم قوله : { أمهاتكم } فيرتقى بهن إلى الجدات ، ولا بناتكم فيحط بهن إلى بنات البنات ، وقد رأى أنهن لم يعمهن في الميراث وعمهن هاهنا في التحريم ، وكذلك قوله تعالى : [ ص: 482 ] { وأمهات نسائكم } كان ينبغي ألا يحمل على العموم أيضا ; لأنه لم يقصد به كما قال سياق العموم ، وكان ذلك لو قلنا به سببا لخرم قاعدة الآية . وقد بينت ذلك في التلخيص والتمحيص . وأما الأحاديث المتقدمة فلا متعلق فيها . أما حديث عائشة فهو أضعف الأدلة ; لأنها قالت : كان مما نزل من القرآن ولم يثبت أصله فكيف يثبت فرعه ؟ . وأما حديث الإملاجة فمعناه كان من المص والجذب مما لم يدر معه لبن ويصل إلى الجوف . ويتحقق وصول اللبن إلى الجوف ، فقليله وكثيره سواء ، بنص القرآن وبنص الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم : { أرضعتني وأبا سلمة ثويبة } ، فإذا مص لبنها وحصل في جوفه فهي مرضعة ، وهي أمه ، وهي داخلة بالآية بلا مرية . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة : كان قوله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } يقتضي بمطلقه تحريم الرضاع في أي وقت وجد من صغر أو كبر ، إلا أن الله سبحانه وتعالى بين وقته بقوله : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } ، فبين زمانه الكامل ; فوجب ألا يعتبر ما زاد عليه . وقد رأت عائشة أن رضاع الكبير محرم ; للحديث الصحيح عنها ، قالت : { جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ; إنا كنا نرى سالما ولدا ، وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ، ويراني فضلا ، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى فيهم ما علمت ، فكيف ترى يا رسول الله فيه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أرضعيه خمس رضعات يحرم بلبنها } . [ ص: 483 ] فكانت تراه ابنا من الرضاعة ، فبذلك كانت عائشة تأخذ ، وأباه سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقلن : والله ما نرى ذلك إلا رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهلة ; لأنهم لم يروه حكما عاما ولا قضية مطلقة لكل أحد ، لا سيما وقد رده عمر ، وأمر بأدب من أرضع من النساء كبيرا . وقد روى الترمذي والنسائي عن أبي سلمة ; قالت عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء من الثدي ، وكان قبل الفطام } . نظام نشر : اعلموا وفقكم الله أن كل شخصين التقما ثديا واحدا في زمان واحد أو في زمانين فهما أخوان ، والأصول منهما والفروع بمنزلة أصول الأنساب وفروعها في التحريم .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية