الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الخامسة : قوله تعالى : { وأنتم سكارى } : السكر : عبارة عن حبس العقل عن التصرف على القانون الذي خلق عليه في الأصل من النظام والاستقامة ، ومنه قوله تعالى : { إنما سكرت أبصارنا } [ ص: 553 ] أي حبست عن تصرفها المعتاد لها ، ومنه سكر الأنهار ; وهو محبس مائها ، فكل ما حبس العقل عن التصرف فهو سكر ، وقد يكون من الخمر ، وقد يكون من النوم ، وقد يكون من الفرح والجزع .

                                                                                                                                                                                                              وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن المراد بهذا السكر سكر الخمر ، وأن ذلك إبان كانت الخمر حلالا ، خلا الضحاك فإنه قال : معناه سكارى من النوم ، فإن كان أراد أن النهي عن سكر الخمر نهي عن سكر النوم فقد أصاب ، ولا معنى له سواه ; ويكون من باب { لا يقضي القاضي وهو غضبان } : دل على أنه منهي عن كل قضاء في حال شغل البال بنوم أو جوع أو حقن أو حزق ، فلا يفهم معه كلام الخصوم ، كما لا يعلم ما يقرأ ، ولا يعقل في الصلاة إذا دافعه الأخبثان ، أو كان بحضرة طعام ، كما رواه مسلم ، ولذلك قال : { حتى تعلموا ما تقولون } وهي :

                                                                                                                                                                                                              المسألة السادسة : العلة في النهي : فبين العلة في النهي ، فحيثما وجدت ، بأي سبب وجدت ، يترتب عليها الحكم ، وقد أغنى هذا اللفظ عن علم سبب الآية ، لأنه مستقل بنفسه . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح : { لا يصلي أحدكم وهو نائم ; لعله يذهب يستغفر ، فيسب نفسه } ، فهذا أيضا مستقل بنفسه ، والحق يعضد بعضه بعضا . فإن قيل ، وهي :

                                                                                                                                                                                                              المسألة السابعة : وكيف يصح تقدير هذا النفي ؟ أتقولون : إن المراد به السكر ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح : { لا يصلي أحدكم وهو نائم ، لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه } ; فهذا أيضا الذي لا يعقل معه معنى ، وكيف يتوجه على هذا خطاب ؟ [ ص: 554 ] فإن قلتم : نهى عن التعرض للسكر إذا كان عليهم فرض الصلاة قيل لكم : إن السكر إذا نافى ابتداء الخطاب نافى استدامته .

                                                                                                                                                                                                              وإن قلتم : إن المراد به المنتشي الذي ليس بسكران نهي أن يصير نفسه سكران والله تعالى يقول : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } أي : في حال سكركم ; ولما كان الاضطراب في الآية هكذا قال الشافعي : المراد به موضع الصلاة . هذا نص كلام بعض من يدعى له التحقيق من أئمة الشافعية ، وهذه منه غفلة ; فإن كل ما لزمه في تقدير الصلاة من توجيه الخطاب يلزمه في تقدير موضع الصلاة .

                                                                                                                                                                                                              والذي يعتقد أنه يصح أن يكون خطابا للصاحي ، يقال له : لا تشرب الخمر بحال ; فإن ذلك يؤدي إلى أن تصلي وأنت لا تعلم فتخلط كما فعل من تقدم ذكره ، وهذه إشارة إلى التحريم ، فلم يقنع بها عمر . والنهي عن التعرض للمحرمات معقول ; وهذا الخطاب يتوجه عليه وهو صاح ، فإذا شرب وعصى وسكر توجه عليه اللوم والعقاب ، ويصح أن يخاطب المنتشي وهو يعقل النهي ، لكن استمرار الأفعال والكلام وانتظامه ربما يفوته ; فقيل له : لا تفعل وأنت منتش أمرا لا تقدر على نظامه كله ، وحاشا لله أن يكون الشافعي يأخذ بهذا من كلام هذا الرجل ، وإنما ينسج الشافعي على منوال الصحابة ، وما في الآية احتمال يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى ، وهو الإسكار . فإن قيل ، وهي

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثامنة : فقد نرى الإنسان يصلي ولا يحسن صلاته لشغل باله ، فلا يشعر بالقراءة حتى تكمل ، ولا بالركوع ولا بالسجود حتى لا يعلم ما كان عدده ، حتى روي عن عمر أنه قال : " إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة " . قلنا : إنما أخذ على العبد الاستشعار وإحضار النية في حال التكبير ، فإن ذهل بعد ذلك فقد سومح فيه ما لم يكثر ; لتعذر الاحتراز منه ، وأنه لا يمكن تكليف العباد به ; وليس حال عمر من هذا ، فإن ذلك نظر في عبادة لعبادة مثلها أو أعظم في بعض الأحوال منها ، ومع هذا فإنما يكون ذلك لحظة مع الغلبة ثم يصحو إلى نفسه ، بخلاف [ ص: 555 ] السكران والنائم والغاضب ومدافع الأخبثين ، فإنه لا يمكنه إحضار ذهنه لغلبة الحال عليه .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية