الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 440 ] القول في تأويل قوله ( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه - بقوله يا أيها الذين أوتوا الكتاب اليهود من بني إسرائيل الذين كانوا حوالي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله لهم يا أيها الذين أنزل إليهم الكتاب فأعطوا العلم به آمنوا " يقول صدقوا بما نزلنا إلى محمد من الفرقان مصدقا لما معكم " يعني محققا للذي معكم من التوراة التي أنزلتها إلى موسى بن عمران من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها " .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك

فقال بعضهم طمسه إياها محوه آثارها حتى تصير كالأقفاء

وقال آخرون معنى ذلك أن نطمس أبصارها فنصيرها عمياء ولكن الخبر خرج بذكر الوجه والمراد به بصره فنردها على أدبارها فنجعل أبصارها من قبل أقفائها

ذكر من قال ذلك :

9713 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثنا عمي قال حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا " إلى قوله من قبل أن نطمس وجوها : وطمسها أن تعمى فنردها على أدبارها " يقول أن نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى ونجعل لأحدهم عينين في قفاه . [ ص: 441 ]

9714 - حدثني أبو العالية إسماعيل بن الهيثم العبدي قال حدثنا أبو قتيبة عن فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي في قوله من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها قال نجعلها في أقفائها فتمشي على أعقابها القهقرى

9715 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال حدثنا عبيد الله بن موسى قال حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية ، بنحوه إلا أنه قال : طمسها أن يردها على أقفائها

9716 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة : فنردها على أدبارها قال نحول وجوهها قبل ظهورها .

وقال آخرون بل معنى ذلك من قبل أن نعمي قوما عن الحق فنردها على أدبارها في الضلالة والكفر .

ذكر من قال ذلك :

9717 - حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها : فنردها عن الصراط عن الحق " فنردها على أدبارها قال في الضلالة

9718 - حدثني المثنى قال حدثنا أبو حذيفة قال حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : أن نطمس وجوها " عن صراط الحق " فنردها على أدبارها : في الضلالة .

9719 - حدثني المثنى قال حدثنا سويد قال أخبرنا ابن المبارك قراءة عن ابن جريج عن مجاهد مثله [ ص: 442 ]

9720 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر قال الحسن : نطمس وجوها : يقول نطمسها عن الحق " فنردها على أدبارها : على ضلالتها .

9721 - حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن مفضل قال حدثنا أسباط عن السدي : يا أيها الذين أوتوا الكتاب " إلى قوله كما لعنا أصحاب السبت قال نزلت في مالك بن الصيف ورفاعة بن زيد بن التابوت من بني قينقاع . أما أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها " يقول فنعميها عن الحق ونرجعها كفارا

9722 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ يقول أخبرنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك يقول في قوله من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها يعني أن نردهم عن الهدى والبصيرة فقد ردهم على أدبارهم فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به .

وقال آخرون معنى ذلك من قبل أن نمحو آثارهم من وجوههم التي هم بها وناحيتهم التي هم بها فنردها على أدبارها من حيث جاءوا منه بديا من الشام .

ذكر من قال ذلك

9723 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها قال كان أبي يقول إلى الشأم .

وقال آخرون معنى ذلك من قبل أن نطمس وجوها فنمحو أثارها [ ص: 443 ] ونسويها فنردها على أدبارها بأن نجعل الوجوه منابت الشعر كما وجوه القردة منابت للشعر لأن شعور بني آدم في أدبار وجوههم . فقالوا إذا أنبت الشعر في وجوههم فقد ردها على أدبارها بتصييره إياها كالأقفاء وأدبار الوجوه .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال معنى قوله من قبل أن نطمس وجوها من قبل أن نطمس أبصارها ونمحو آثارها فنسويها كالأقفاء فنردها على أدبارها فنجعل أبصارها في أدبارها يعني بذلك فنجعل الوجوه في أدبار الوجوه فيكون معناه فنحول الوجوه أقفاء والأقفاء وجوها فيمشون القهقرى كما قال ابن عباس وعطية ومن قال ذلك .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن الله جل ثناؤه خاطب بهذه الآية اليهود الذين وصف صفتهم بقوله ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ثم حذرهم جل ثناؤه بقوله : يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها الآية بأسه وسطوته وتعجيل عقابه لهم إن هم لم يؤمنوا بما أمرهم بالإيمان به ولا شك أنهم كانوا لما أمرهم بالإيمان به يومئذ كفارا .

وإذ كان ذلك كذلك فبين فساد قول من قال تأويل ذلك أن نعميها عن الحق فنردها في الضلالة فما وجه رد من هو في الضلالة فيها وإنما يرد في الشيء من كان خارجا منه فأما من هو فيه فلا وجه لأن يقال نرده فيه .

وإذ كان ذلك كذلك وكان صحيحا أن الله قد تهدد للذين ذكرهم في هذه [ ص: 444 ] الآية برده وجوههم على أدبارهم كان بينا فساد تأويل من قال معنى ذلك يهددهم بردهم في ضلالتهم .

وأما الذين قالوا معنى ذلك من قبل أن نجعل الوجوه منابت الشعر كهيئة وجوه القردة فقول لقول أهل التأويل مخالف وكفى بخروجه عن قول أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الخالفين على خطئه شاهدا .

وأما قول من قال معناه : من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها فنردهم إلى الشأم من مساكنهم بالحجاز ونجد فإنه - إن كان قولا له وجه - مما يدل عليه ظاهر التنزيل بعيد وذلك أن المعروف من الوجوه في كلامالعرب التي هي خلاف الأقفاء وكتاب الله يوجه تأويله إلى الأغلب في كلام من نزل بلسانه حتى يدل على أنه معني به غير ذلك من الوجوه الذي يجب التسليم له .

وأما الطمس فهو العفو والدثور في استواء منه يقال طمست أعلام الطريق تطمس طموسا إذا دثرت وتعفت فاندفنت واستوت بالأرض كما قال كعب بن زهير


من كل نضاحة الذفرى إذا عرقت عرضتها طامس الأعلام مجهول



يعني طامس الأعلام دائر الأعلام مندفنها ومن ذلك قيل للأعمى الذي [ ص: 445 ] قد تعفى غر ما بين جفني عينيه فدثر أعمى مطموس وطميس كما قال الله جل ثناؤه : ( ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ) [ سورة يس 66 ] .

قال أبو جعفر : الغر الشق الذي بين الجفنين .

فإن قال قائل : فإن كان الأمر كما وصفت من تأويل الآية فهل كان ما توعدهم به

قيل لم يكن لأنه آمن منهم جماعة منهم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وأسد بن سعية وأسد بن عبيد ومخيرق وجماعة غيرهم فدفع عنهم بإيمانهم

ومما يبين أن هذه الآية نزلت في اليهود الذين ذكرنا صفتهم ما

9724 - حدثنا أبو كريب قال حدثنا يونس بن بكير وحدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة جميعا عن ابن إسحاق قال حدثني محمد بن أبي محمد [ ص: 446 ] مولى زيد بن ثابت قال حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود : منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد فقال لهم يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق . فقالوا ما نعرف ذلك يا محمد . وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر فأنزل الله فيهم يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها " الآية

9725 - حدثنا أبو كريب قال حدثنا جابر بن نوح عن عيسى بن المغيرة قال تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب فقال أسلم كعب في زمان عمر أقبل وهو يريد بيت المقدس فمر على المدينة فخرج إليه عمر فقال يا كعب أسلم قال ألستم تقرأون في كتابكم : ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ) [ سورة الجمعة 5 ] وأنا قد حملت التوراة قال : فتركه ثم خرج حتى انتهى إلى حمص قال فسمع رجلا من أهلها حزينا وهو يقول يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها : الآية فقال كعب : يا رب آمنت يا رب أسلمت مخافة أن تصيبه الآية ثم رجع فأتى أهله باليمن ثم جاء بهم مسلمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية