الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        3919 حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        الحديث الرابع حديث البراء في تكثير ماء البئر بالحديبية ببركة بصاق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها ، ذكره من وجهين عن أبي إسحاق عن البراء ، ووقع في رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء كنا أربع عشرة مائة ، وفي رواية زهير عنه أنهم كانوا ألفا وأربعمائة أو أكثر ، ووقع في حديث جابر الذي بعده من طريق سالم بن أبي الجعد عنه أنهم كانوا عشرة مائة ، ومن طريق قتادة " قلت لسعيد بن المسيب : بلغني عن جابر أنهم كانوا أربع عشرة مائة ، فقال سعيد : حدثني جابر أنهم كانوا خمس عشرة مائة " ومن طريق عمرو بن دينار عن جابر " كانوا ألفا وأربعمائة " ومن طريق عبد الله بن أبي أوفى " كانوا ألفا وثلاثمائة " ووقع عند ابن أبي شيبة من حديث مجمع بن حارثة " كانوا ألفا وخمسمائة " والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة ، فمن قال ألفا وخمسمائة . جبر الكسر ، ومن قال ألفا وأربعمائة ألغاه ، ويؤيده قوله في الرواية الثالثة من حديث البراء " ألفا [ ص: 505 ] وأربعمائة أو أكثر " واعتمد على هذا الجمع النووي ، وأما البيهقي فمال إلى الترجيح وقال : إن رواية من قال : ألف وأربعمائة أصح ، ثم ساقه من طريق أبي الزبير ومن طريق أبي سفيان كلاهما عن جابر كذلك ، ومن رواية معقل بن يسار وسلمة بن الأكوع والبراء بن عازب ، ومن طريق قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبيه . قلت : ومعظم هذه الطرق عند مسلم ، ووقع عند ابن سعد في حديث معقل بن يسار زهاء ألف وأربعمائة وهو ظاهر في عدم التحديد . وأما قول عبد الله بن أبي أوفى ألفا وثلاثمائة فيمكن حمله على ما اطلع هو عليه ، واطلع غيره على زيادة ناس لم يطلع هو عليهم ، والزيادة من الثقة مقبولة ، أو العدد الذي ذكره جملة من ابتداء الخروج من المدينة والزائد تلاحقوا بهم بعد ذلك ، أو العدد الذي ذكره هو عدد المقاتلة والزيادة عليها من الأتباع من الخدم والنساء والصبيان الذين لم يبلغوا الحلم .

                                                                                                                                                                                                        وأما قول ابن إسحاق إنهم كانوا سبعمائة فلم يوافق عليه ؛ لأنه قاله استنباطا من قول جابر : " نحرنا البدنة عن عشرة " وكانوا نحروا سبعين بدنة وهذا لا يدل على أنهم لم ينحروا غير البدن ، مع أن بعضهم لم يكن أحرم أصلا . وسيأتي في هذا الباب في حديث المسور ومروان أنهما خرجوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بضع عشرة مائة ، فيجمع أيضا بأن الذين بايعوا كانوا كما تقدم ، وما زاد على ذلك كانوا غائبين عنها كمن توجه مع عثمان إلى مكة ، على أن لفظ البضع يصدق على الخمس والأربع فلا تخالف ، وجزم موسى بن عقبة بأنهم كانوا ألفا وستمائة ، وفي حديث سلمة بن الأكوع عند ابن أبي شيبة ألفا وسبعمائة ، وحكى ابن سعد أنهم كانوا ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين ، وهذا إن ثبت تحرير بالغ . ثم وجدته موصولا عن ابن عباس عند ابن مردويه ، وفيه رد على ابن دحية حيث زعم أن سبب الاختلاف في عددهم أن الذي ذكر عددهم لم يقصد التحديد وإنما ذكره بالحدس والتخمين ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 506 ] قوله : ( ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان ) يعني قوله تعالى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا وهذا موضع وقع فيه اختلاف قديم ، والتحقيق أنه يختلف باختلاف المراد من الآيات ، فقوله تعالى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا المراد بالفتح هنا الحديبية ؛ لأنها كانت مبدأ الفتح المبين على المسلمين ، لما ترتب على الصلح الذي وقع منه الأمن ورفع الحرب وتمكن من يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة من ذلك كما وقع لخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما ، ثم تبعت الأسباب بعضها بعضا إلى أن كمل الفتح ، وقد ذكر ابن إسحاق في المغازي عن الزهري قال : لم يكن في الإسلام فتح قبل فتح الحديبية أعظم منه ، وإنما كان الكفر حيث القتال ، فلما أمن الناس كلهم كلم بعضهم بعضا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة ولم يكن أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا بادر إلى الدخول فيه ، فلقد دخل في تلك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر . قال ابن هشام : ويدل عليه أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج في الحديبية في ألف وأربعمائة ثم خرج بعد سنتين إلى فتح مكة في عشرة آلاف انتهى .

                                                                                                                                                                                                        وهذه الآية نزلت منصرفه - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية كما في هذا الباب من حديث عمر ، وأما قوله تعالى في هذه السورة : وأثابهم فتحا قريبا فالمراد به فتح خيبر على الصحيح لأنها هي التي وقعت فيها المغانم الكثيرة للمسلمين . وقد روى أحمد وأبو داود والحاكم من حديث مجمع بن حارثة قال : شهدنا الحديبية فلما انصرفنا وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا عند كراع الغميم وقد جمع الناس فقرأ عليهم إنا فتحنا لك فتحا مبينا الآية فقال رجل : يا رسول الله أوفتح هو ؟ قال : أي والذي نفسي بيده إنه لفتح . ثم قسمت خيبر على أهل الحديبية . وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن الشعبي في قوله : إنا فتحنا لك فتحا مبينا قال : صلح الحديبية ، وغفر له ما تقدم وما تأخر ، وتبايعوا بيعة الرضوان ، وأطعموا نخيل خيبر ، وظهرت الروم على فارس وفرح المسلمون بنصر الله . وأما قوله تعالى : فجعل من دون ذلك فتحا قريبا فالمراد الحديبية ، وأما قوله تعالى : إذا جاء نصر الله والفتح وقوله - صلى الله عليه وسلم - لا هجرة بعد الفتح فالمراد به فتح مكة باتفاق ، فبهذا يرتقع الإشكال وتجتمع الأقوال بعون الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( والحديبية بئر ) يشير إلى أن المكان المعروف بالحديبية سمي ببئر كانت هنالك ، هذا اسمها ثم عرف المكان كله بذلك ، وقد مضى بأبسط من هذا في أواخر الشروط .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فنزحناها ) كذا للأكثر ، ووقع في شرح ابن التين " فنزفناها " بالفاء بدل الحاء المهملة قال : والنزف والنزح واحد وهو أخذ الماء شيئا بعد شيء إلى أن لا يبقى منه شيء .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فلم نترك فيها قطرة ) في رواية " فوجدنا الناس قد نزحوها " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء ) في رواية زهير " ثم قال : ائتوني بدلو من مائها " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم مضمض ودعا ، ثم صبه فيها ، فتركناها غير بعيد ) في رواية زهير " فبصق فدعا ثم قال : دعوها ساعة " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم إنها أصدرتنا ) أي رجعتنا ، يعني أنهم رجعوا عنها وقد رووا ، وفي رواية زهير " فأرووا أنفسهم وركابهم " والركاب الإبل التي يسار عليها .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية