الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                2187 حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم العين حق

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( العين حق ، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين ، وإذا استغسلتم فاغتسلوا ) . قال الإمام أبو عبد الله المازري : أخذ جماهير العلماء بظاهر هذا الحديث ، وقالوا : العين حق ، وأنكره طوائف من المبتدعة ، والدليل على فساد قولهم أن كل معنى ليس مخالفا في نفسه ، ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ، ولا إفساد دليل ، فإنه من مجوزات العقول . إذا أخبر الشرع بوقوعه وجب اعتقاده ، ولا يجوز تكذيبه . وهل من فرق بين تكذيبهم بهذا ، وتكذيبهم بما يخبره به من أمور الآخرة ؟

                                                                                                                قال : وقد زعم بعض الطبائعيين من المثبتين للعين أن العائن تنبعث من عينه قوة سمية تتصل بالعين ، فيهلك أو يفسد . قالوا : ولا يمتنع هذا ، كما لا يمتنع انبعاث قوة سمية من الأفعى والعقرب تتصل باللديغ فيهلك ، وإن كان غير محسوس لنا ، فكذا العين . قال المازري : وهذا غير [ ص: 343 ] مسلم لأنا بينا في كتب علم الكلام أن لا فاعل إلا الله تعالى ، وبينا فساد القول بالطبائع ، وبينا أن المحدث لا يفعل في غيره شيئا ، وإذا تقرر هذا بطل ما قالوه . ثم نقول : هذا المنبعث من العين إما جوهر ، وإما عرض . فباطل أن يكون عرضا ؛ لأنه لا يقبل الانتقال ، وباطل أن يكون جوهرا ؛ لأن الجواهر متجانسة ، فليس بعضها بأن يكون مفسدا لبعضها بأولى من عكسه ، فبطل ما قالوه .

                                                                                                                قال : وأقرب طريقة قالها من ينتحل الإسلام منهم أن قالوا : لا يبعد أن تنبعث جواهر لطيفة غير مرئية من العين ، فتتصل بالمعين ، وتتخلل مسام جسمه ، فيخلق الله سبحانه وتعالى الهلاك عندها كما يخلق الهلاك عند شرب السم ، عادة أجراها الله تعالى ، وليست ضرورة ، ولا طبيعة ألجأ العقل إليها . ومذهب أهل السنة أن العين إنما تفسد وتهلك عند نظر العائن بفعل الله تعالى ، أجرى الله سبحانه وتعالى العادة أن يخلق الضرر عند مقابلة هذا الشخص لشخص آخر . وهل ثم جواهر خفية أم لا ؟ هذا من مجوزات العقول ، لا يقطع فيه بواحد من الأمرين ، وإنما يقطع بنفي الفعل عنها وبإضافته إلى الله تعالى . فمن قطع من أطباء الإسلام بانبعاث الجواهر فقد أخطأ في قطعه ، وإنما هو من الجائزات .

                                                                                                                هذا ما يتعلق بعلم الأصول . أما ما يتعلق بعلم الفقه فإن الشرع ورد بالوضوء لهذا الأمر في حديث سهل بن حنيف لما أصيب بالعين عند اغتساله فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عائنه أن يتوضأ . رواه مالك في الموطأ . وصفة وضوء العائن عند العلماء أن يؤتى بقدح ماء ، ولا يوضع القدح في الأرض ، فيأخذ منه غرفة فيتمضمض بها ، ثم يمجها في القدح ، ثم يأخذ منه ماء يغسل وجهه ، ثم يأخذ بشماله ماء يغسل به كفه اليمنى ، ثم بيمينه ماء يغسل به مرفقه الأيسر ، ولا يغسل ما بين المرفقين والكعبين ، ثم يغسل قدمه اليمنى ، ثم اليسرى على الصفة المتقدمة ، وكل ذلك في القدح ، ثم داخلة إزاره ، وهو الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن . وقد ظن بعضهم أن داخلة الإزار كناية عن الفرج ، وجمهور العلماء على ما قدمناه . فإذا استكمل هذا صبه من خلفه على رأسه . وهذا المعنى لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه ، وليس في قوة العقل الاطلاع على أسرار جميع المعلومات ، فلا يدفع هذا بألا يعقل معناه .

                                                                                                                قال : وقد اختلف العلماء في العائن هل يجبر على الوضوء للمعين أم لا ؟ واحتج من أوجبه بقوله صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم هذه ( وإذا استغسلتم فاغسلوا ) وبرواية الموطأ التي ذكرناها أنه صلى الله عليه وسلم أمره بالوضوء ، والأمر للوجوب . قال المازري : والصحيح عندي الوجوب ، ويبعد الخلاف فيه إذا خشي على المعين الهلاك ، وكان وضوء العائن مما جرت العادة بالبرء به ، أو كان الشرع أخبر به خبرا عاما ، ولم يكن زوال الهلاك إلا بوضوء العائن فإنه يصير من باب من تعين عليه إحياء نفس مشرفة على الهلاك ، وقد تقرر أنه يجبر على بذل الطعام للمضطر ، فهذا أولى ، وبهذا التقرير يرتفع الخلاف فيه . هذا آخر كلام المازري .

                                                                                                                قال القاضي عياض بعد أن ذكر قول المازري الذي حكيته . بقي من تفسير هذا الغسل على قول [ ص: 344 ] الجمهور ، وما فسره به الزهري ، وأخبر أنه أدرك العلماء يصفونه ، واستحسنه علماؤنا ، ومضى به العمل أن غسل العائن وجهه إنما هو صبه ، وأخذه بيده اليمنى ، وكذلك باقي أعضائه إنما هو صبه صبة على ذلك الوضوء في القدح ، ليس على صفة غسل الأعضاء في الوضوء وغيره ، وكذلك غسل داخلة الإزار إنما هو إدخاله وغمسه في القدح ، ثم يقوم الذي في يده القدح فيصبه على رأس المعين من ورائه على جميع جسده ، ثم يكفأ القدح وراءه على ظهر الأرض ، وقيل : يستغفله بذلك عند صبه عليه . هذه رواية ابن أبي ذئب .

                                                                                                                وقد جاء عن ابن شهاب من رواية عقيل مثل هذا ، إلا أن فيه الابتداء بغسل الوجه قبل المضمضة ، وفيه في غسل القدمين أنه لا يغسل جميعها ، وإنما قال : ثم يفعل مثل ذلك في طرف قدمه اليمنى من عند أصول أصابعه ، واليسرى كذلك ، وداخلة الإزار هنا المئزر ، والمراد بداخلته ما يلي الجسد منه ، وقيل : المراد موضعه من الجسد ، وقيل : المراد مذاكيره كما يقال : عفيف الإزار أي الفرج . وقيل : المراد وركه إذ هو معقد الإزار .

                                                                                                                وقد جاء في حديث سهل بن حنيف من رواية مالك في صفته أنه قال للعائن : اغتسل له ، فغسل وجهه ، ويديه ، ومرفقيه ، وركبتيه ، وأطراف رجليه ، وداخلة إزاره . وفي رواية : فغسل وجهه ، وظاهر كفيه ، ومرفقيه ، وغسل صدره ، وداخلة إزاره ، وركبتيه ، وأطراف قدميه ظاهرهما في الإناء . قال : وحسبته قال : وأمر فحسا منه حسوات . والله أعلم .

                                                                                                                قال القاضي في هذا الحديث من الفقه ما قاله بعض العلماء أنه ينبغي إذا عرف أحد بالإصابة بالعين أن يجتنب ويتحرز منه ، وينبغي للإمام منعه من مداخلة الناس ، ويأمره بلزوم بيته . فإن كان فقيرا رزقه ما يكفيه ، ويكف أذاه عن الناس ، فضرره أشد من ضرر آكل الثوم والبصل الذي منعه النبي صلى الله عليه وسلم دخول المسجد لئلا يؤذي المسلمين ، ومن ضرر المجذوم الذي منعه عمر رضي الله عنه والعلماء بعده الاختلاط بالناس ، ومن ضرر المؤذيات من المواشي التي يؤمر بتغريبها إلى حيث لا يتأذى به أحد . وهذا الذي قاله هذا القائل صحيح متعين ، ولا يعرف عن غيره تصريح بخلافه . والله أعلم .

                                                                                                                قال القاضي : وفي هذا الحديث دليل لجواز النشرة والتطبب بها ، وسبق بيان الخلاف فيها . والله أعلم .




                                                                                                                الخدمات العلمية