الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      وفد ثقيف

                                                                                      وقال حاتم بن إسماعيل ، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع ، عن عبد الكريم ، عن علقمة بن سفيان بن عبد الله الثقفي ، عن أبيه ، قال : كنا في الوفد الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فضرب لنا قبتين عند دار المغيرة بن شعبة . قال : وكان بلال يأتينا بفطرنا ، فنقول : أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقول : نعم ؛ ما جئتكم حتى أفطر ، فيضع يده فيأكل ونأكل .

                                                                                      وقال حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن ، عن عثمان بن أبي العاص الثقفي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلهم في قبة في المسجد ، ليكون أرق لقلوبهم . واشترطوا عليه حين أسلموا أن لا يحشروا ولا يعشروا [ ص: 264 ] ولا يجبوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا خير في دين ليس فيه ركوع ، ولكم أن لا تحشروا ولا تعشروا " .

                                                                                      وقال أبو داود في " السنن " : حدثنا الحسن بن الصباح ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : حدثني إبراهيم ، عن أبيه ، عن وهب ، قال : سألت جابرا عن شأن ثقيف إذ بايعت ، قال : اشترطت على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد ، وأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقول : " سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا " .

                                                                                      وقال موسى بن عقبة ، عن عروة بمعناه ، قال : فأسلم عروة بن مسعود ، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرجع إلى قومه . فقال : إني أخاف أن يقتلوك . قال : لو وجدوني نائما ما أيقظوني . فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم . فرجع إلى الطائف ، وقدم الطائف عشيا فجاءته ثقيف فحيوه ، ودعاهم إلى الإسلام ونصح لهم ، فاتهموه وعصوه ، وأسمعوه من الأذى ما لم يكن يخشاهم عليه . فخرجوا من عنده ، حتى إذا أسحر وطلع الفجر ، قام على غرفة له في داره فأذن بالصلاة وتشهد ، فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله .

                                                                                      فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه قتله : " مثل عروة مثل صاحب ياسين ، دعا قومه إلى الله فقتلوه " .

                                                                                      وأقبل - بعد قتله - من وفد ثقيف بضعة عشر رجلا هم أشراف ثقيف ، فيهم كنانة بن عبد ياليل وهو رأسهم يومئذ ، وفيهم عثمان بن أبي العاص بن بشر ، وهو أصغرهم . حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يريدون الصلح ، حين رأوا أن قد فتحت مكة وأسلمت عامة العرب .

                                                                                      [ ص: 265 ] فقال المغيرة بن شعبة : يا رسول الله ، أنزل علي قومي فأكرمهم ، فإني حديث الجرم فيهم . فقال : لا أمنعك أن تكرم قومك ، ولكن منزلهم حيث يسمعون القرآن . وكان من جرم المغيرة في قومه أنه كان أجيرا لثقيف ، وأنهم أقبلوا من مصر ، حتى إذا كانوا ببصاق ، عدا عليهم وهم نيام فقتلهم ، ثم أقبل بأموالهم حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، خمس مالي هذا . فقال : " وما نبؤه ؟ " فأخبره ، فقال : " إنا لسنا نغدر " وأبى أن يخمسه .

                                                                                      وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد ، وبنى لهم خياما لكي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب لم يذكر نفسه . فلما سمعه وفد ثقيف ؛ قالوا : يأمرنا أن نشهد أنه رسول الله ، ولا يشهد به في خطبته . فلما بلغه ذلك قال : فإني أول من شهد أني رسول الله .

                                                                                      وكانوا يغدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم ، ويخلفون عثمان بن أبي العاص على رحالهم . فكان عثمان ، كلما رجعوا وقالوا بالهاجرة ، عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الدين واستقرأه القرآن ، حتى فقه في الدين وعلم . وكان إذا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نائما عمد إلى أبي بكر . وكان يكتم ذلك من أصحابه . فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعجب منه وأحبه .

                                                                                      فمكث الوفد يختلفون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعوهم إلى الإسلام ، فأسلموا ، فقال كنانة بن عبد ياليل : هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا ؟ قال : " نعم ؛ إن أنتم أقررتم بالإسلام قاضيتكم ، وإلا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم " قالوا : أفرأيت الزنا ، فإنا قوم نغترب لا بد لنا منه ؟ قال : " هو عليكم حرام " قالوا : فالربا ؟ قال : " لكم [ ص: 266 ] رءوس أموالكم " قالوا : فالخمر ؟ قال : " حرام " وتلا عليهم الآيات في تحريم هذه الأشياء . فارتفع القوم وخلا بعضهم ببعض ، فقالوا : ويحكم ، إنا نخاف - إن خالفناه - يوما كيوم مكة . انطلقوا بكاتبه على ما سألنا . فأتوه فقالوا : نعم ؛ لك ما سألت . أرأيت الربة ماذا نصنع فيها ؟ قال : " اهدموها " قالوا : هيهات ، لو تعلم الربة ماذا تصنع فيها أو أنك تريد هدمها قتلت أهلها . فقال عمر : ويحك يا ابن عبد ياليل ، ما أحمقك ، إنما الربة حجر . قال : إنا لم نأتك يا ابن الخطاب . وقالوا : يا رسول الله ، تول أنت هدمها ، فأما نحن فإنا لن نهدمها أبدا . قال : " فسأبعث إليكم من يهدمها " فكاتبوه وقالوا : يا رسول الله ، أمر علينا رجلا يؤمنا . فأمر عليهم عثمان لما رأى من حرصه على الإسلام . وكان قد تعلم سورا من القرآن .

                                                                                      وقال ابن عبد ياليل : أنا أعلم الناس بثقيف ، فاكتموهم الإسلام وخوفوهم الحرب ، وأخبروا أن محمدا سألنا أمورا أبيناها .

                                                                                      قال : فخرجت ثقيف يتلقون الوفد . فلما رأوهم قد ساروا العنق ، وقطروا الإبل ، وتغشوا ثيابهم ، كهيئة القوم قد حزنوا وكربوا ولم يرجعوا بخير . فلما رأت ثقيف ما في وجوههم ، قالوا : ما وفدكم بخير ولا رجعوا به . فدخل الوفد فعمدوا اللات فنزلوا عندها . واللات بيت بين ظهري الطائف يستر ويهدى له الهدي ، كما يهدى للكعبة .

                                                                                      فقال ناس من ثقيف حين نزل الوفد إليها : إنه لا عهد لهم برؤيتها . ثم رجع كل واحد إلى أهله ، وجاء كل رجل منهم خاصته فسألوهم فقالوا : أتينا رجلا فظا غليظا يأخذ من أمره ما يشاء ، قد ظهر بالسيف وأداخ العرب ودانت له الناس . فعرض علينا أمورا شدادا : هدم [ ص: 267 ] اللات ، وترك الأموال في الربا إلا في رءوس أموالكم ، وحرم الخمر والزنا ، فقالت ثقيف : والله لا نقبل هذا أبدا . فقال الوفد : أصلحوا السلاح وتهيئوا للقتال ورموا حصنكم . فمكثت ثقيف بذلك يومين أو ثلاثة يريدون القتال . ثم ألقى الله في قلوبهم الرعب ، فقالوا : والله ما لنا به طاقة ، وقد أداخ العرب كلها ، فارجعوا إليه فأعطوه ما سأل . فلما رأى ذلك الوفد أنهم قد رعبوا ؛ قالوا : فإنا قد قاضيناه وفعلنا ووجدناه أتقى الناس وأرحمهم وأصدقهم . قالوا : لم كتمتمونا وغممتمونا أشد الغم ؟ قالوا : أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان . فأسلموا مكانهم .

                                                                                      ثم قدم عليهم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد أمر عليهم خالد بن الوليد ، وفيهم المغيرة . فلما قدموا عمدوا للات ليهدموها ، واستكفت ثقيف كلها ، حتى خرج العواتق ، لا ترى عامة ثقيف أنها مهدومة . فقام المغيرة فأخذ الكرزين وقال لأصحابه : والله لأضحكنكم منهم . فضرب بالكرزين ، ثم سقط يركض . فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة ، وقالوا : أبعد الله المغيرة ، قد قتلته الربة . وفرحوا ، وقالوا : من شاء منكم فليقترب وليجتهد على هدمها ، فوالله لا يستطاع أبدا . فوثب المغيرة بن شعبة فقال : قبحكم الله ; إنما هي لكاع حجارة ومدر ، فاقبلوا عافية الله واعبدوه . ثم ضرب الباب فكسره ، ثم علا على سورها ، وعلا الرجال معه ، فهدموها . وجعل صاحب المفتح يقول : ليغضبن الأساس ، فليخسفن بهم ، فقالالمغيرة لخالد : دعني أحفر أساسها . فحفره حتى أخرجوا ترابها ، وانتزعوا حليتها ، وأخذوا ثيابها . فبهتت [ ص: 268 ] ثقيف ، فقالت عجوز منهم : أسلمها الرضاع وتركوا المصاع . وأقبل الوفد حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بحليتها وكسوتها ، فقسمه .

                                                                                      وقال ابن إسحاق : أقامت ثقيف ، بعد قتل عروة بن مسعود ، أشهرا . ثم ذكر قدومهم على النبي صلى الله عليه وسلم ، وإسلامهم . وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة يهدمان الطاغية .

                                                                                      وقال سعيد بن السائب ، عن محمد بن عبد الله بن عياض ، عن عثمان بن أبي العاص ; أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طاغيتهم .

                                                                                      رواه أبو همام محمد بن محبب الدلال ، عن سعيد ، والله أعلم .

                                                                                      ولما فرغ ابن إسحاق من شأن ثقيف ، ذكر بعد ذلك حجة أبي بكر الصديق بالناس .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية