الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      قال ابن إسحاق : وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني حنيفة ، فيهم مسيلمة بن حبيب الكذاب . فكان منزلتهم في دار بنت الحارث الأنصارية . فحدثني بعض علمائنا أن بني حنيفة أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم تستره بالثياب ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه معه عسيب نخل في رأسه خوصات . فلما كلم النبي صلى الله عليه وسلم وسأله قال : " لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه " .

                                                                                      قال ابن إسحاق : وحدثني شيخ من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا ; زعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفوا مسيلمة في رحالهم ، فلما أسلموا ذكروا له مكانه فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به لهم ، وقال : " أما إنه ليس بأشركم مكانا " يعني حفظه ضيعة أصحابه . ثم انصرفوا وجاءوه بالذي أعطاه . فلما قدموا اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ ، وقال : إني أشركت في الأمر مع محمد ، ألم يقل لكم [ ص: 276 ] حين ذكرتموني له أما إنه ليس بأشركم مكانا ؟ وما ذاك إلا لما يعلم أني قد أشركت معه . ثم جعل يسجع السجعات فيقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن : لقد أنعم الله على الحبلى ، أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشى . ووضع عنهم الصلاة وأحل لهم الزنا والخمر ، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نبي . فأصفقت معه بنو حنيفة على ذلك .

                                                                                      وقال شعيب بن أبي حمزة ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين ، قال : حدثنا نافع بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فجعل يقول : إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته . وقدمها في بشر كثير من قومه . فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعه ثابت بن قيس بن شماس ، وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم قطعة جريد ، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه ، فقال : " إن سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ، ولن تعدو أمر الله فيك ، ولئن أدبرت ليعقرنك الله ، وإني أراك الذي أريت فيه ما رأيت ، وهذا ثابت بن قيس يجيبك عني " ثم انصرف .

                                                                                      قال ابن عباس : فسألت عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنك الذي أريت فيه ما رأيت " فأخبرني أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما ، فأوحي إلي في المنام أن انفخهما ، فنفختهما فطارا ، فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي " قال : فهذا أحدهما العنسي صاحب صنعاء ، والآخر مسيلمة صاحب اليمامة . أخرجاه .

                                                                                      [ ص: 277 ] وقال معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينا أنا نائم إذ أتيت بخزائن الأرض ، فوضع في يدي سواران من ذهب ، فكبرا علي وأهماني ، فأوحي إلي أن انفخهما ، فنفختهما ، فذهبا ، فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما ; صاحب صنعاء ، وصاحب اليمامة " . متفق عليه .

                                                                                      وقال البخاري : حدثنا الصلت بن محمد ، قال : حدثنا مهدي بن ميمون ، قال : سمع أبا رجاء ; هو العطاردي ; يقول : لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا به ، لحقنا بمسيلمة الكذاب ; لحقنا بالنار ; وكنا نعبد الحجر في الجاهلية ، وإذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من تراب ثم حلبنا عليها اللبن ، ثم نطوف به .

                                                                                      وقال إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : جاء رجل إلى ابن مسعود ، فقال : إني مررت ببعض مساجد بني حنيفة وهم يقرءون قراءة ما أنزلها الله : الطاحنات طحنا ، والعاجنات عجنا ، والخابزات خبزا ، والثاردات ثردا ، واللاقمات لقما . فأرسل إليهم عبد الله فأتي بهم ، وهم سبعون رجلا ورأسهم عبد الله بن النواحة . قال : فأمر به عبد الله فقتل . ثم قال : ما كنا بمحرزين الشيطان من هؤلاء ، ولكنا نحدرهم إلى الشام لعل الله أن يكفيناهم .

                                                                                      وقال المسعودي عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، قال : جاء ابن النواحة وابن أثال رسولين لمسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : " تشهدان أني رسول الله ؟ " فقالا : نشهد أن مسيلمة رسول الله . فقال : " آمنت بالله ورسله ، ولو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما " .

                                                                                      [ ص: 278 ] قال عبد الله : فمضت السنة بأن الرسل لا تقتل .

                                                                                      قال عبد الله : أما ابن أثال فقد كفانا الله ، وأما ابن النواحة فلم يزل في نفسي حتى أمكن الله منه . رواه أبو داود الطيالسي في " مسنده " ، عن المسعودي . وله شاهد .

                                                                                      قال يونس ، عن ابن إسحاق : حدثني سعد بن طارق ، عن سلمة بن نعيم بن مسعود ، عن أبيه ، سمع النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسولا مسيلمة الكذاب بكتابه يقول لهما : " وأنتما تقولان بمثل ما يقول ؟ قالا : نعم . فقال : " أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما " .

                                                                                      قال ابن إسحاق : وقد كان مسيلمة كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر :

                                                                                      من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله . سلام عليك ، أما بعد ؛ فإني قد أشركت في الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ، ولكن قريشا قوم يعتدون .

                                                                                      فكتب إليه : " من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب . سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين
                                                                                      " .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية