الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 5 ] وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا .

حكاية مقالة أخرى من مقالات تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام ، وقد عنون عليهم في هذه المقالة بـ ( الذين لا يرجون لقاءنا ) وعنون عليهم في المقالات السابقة بـ ( الذين كفروا ) وبـ ( الظالمون ) ؛ لأن بين هذا الوصف وبين مقالتهم انتقاضا ، فهم كذبوا بلقاء الآخرة بما فيه من رؤية الله والملائكة ، وطلبوا رؤية الله في الدنيا ، ونزول الملائكة عليهم في الدنيا ، وأرادوا تلقي الدين من الملائكة أو من الله مباشرة ، فكان في حكاية قولهم وذكر وصفهم تعجيب من تناقض مداركهم .

واعلم أن أهل الشرك شهدوا أنفسهم بإنكار البعث وتوهموا أن شبهتهم في إنكاره أقوى حجة لهم في تكذيب الرسل ، فمن أجل ذلك أيضا جعل قولهم ذلك طريقا لتعريفهم بالموصول كما قال تعالى : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله ) في سورة يونس .

و ( لولا ) حرف تحضيض مستعمل في التعجيز والاستحالة ، أي هلا أنزل علينا الملائكة فنؤمن بما جئت به ، يعنون أنه إن كان صادقا فليسأل من ربه وسيلة أخرى لإبلاغ الدين إليهم .

ومعنى ( لا يرجون ) لا يظنون ظنا قريبا ، أي يعدون لقاء الله محالا . ومقصدهم من مقالهم أنهم أعلى من أن يتلقوا الدين من رجل مثلهم ولذلك عقب بقوله : ( لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا ) على معنى التعجيب من ازدهائهم وغرورهم الباطل .

[ ص: 6 ] والجملة استئناف يتنزل منزلة جواب عن قولهم . والتأكيد بلام القسم لإفادة معنى التعجيب ؛ لأن القسم يستعمل في التعجب كقول أحد بني كلاب أو بني نمير أنشده ثعلب في مجالسه والقالي في أماليه :


ألا يا سنا برق على قلل الحمى لهنك من برق علـي كريم



فإن قوله : من برق ، في قوة التمييز وإنما يكون التمييز فيه لما فيه من معنى التعجب .

والاستكبار : مبالغة في التكبر ، فالسين والتاء للمبالغة مثل استجاب .

و ( في ) للظرفية المجازية ؛ شبهت أنفسهم بالظروف في تمكن المظروف منها ، أي هو استكبار متمكن منهم كقوله تعالى : ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) .

ويجوز أن تكون ( في ) للتعليل كما في الحديث دخلت امرأة النار في هرة حبستها الحديث ، أي : استكبروا لأجل عظمة أنفسهم في زعمهم . وليست الظرفية حقيقية لقلة جدوى ذلك ؛ إذ من المعلوم أن الاستكبار لا يكون إلا في النفس ؛ لأنه من الأفعال النفسية .

والعتو : تجاوز الحد في الظلم ، وتقدم في قوله تعالى : ( وعتوا عن أمر ربهم ) في الأعراف . وإنما كان هذا ظلما ؛ لأنهم تجاوزوا مقدار ما خولهم الله من القابلية .

وفي هذا إيماء إلى أن النبوءة لا تكون بالاكتساب وإنما هي إعداد من الله تعالى قال : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية