الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم إنه تعالى بين ما في هذه الآية من الإجمال في الموت ، والرجوع إلى الله للحساب والجزاء مبتدئا ذلك بذكر قهره لعباده ، واستعلائه عليهم ، وإرساله الحفظة لإحصاء أعمالهم وكتابتها عليهم فقال : ( وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة ) بينا معنى الجملة الأولى بنصها في تفسير الآية الثامنة عشرة من هذه السورة ، وكلمة " فوق " تستعمل - كما قال الراغب - في المكان والزمان والجسم والعدد والمنزلة ، وذلك أضرب ضرب لها الراغب الأمثلة ، ف " فوق " العلوية يقابله " تحت " ، و " فوق " الصعود يقابله في الحدود الأسفل ، و " فوق " العدد يقابله القليل أو الأقل منه ، و " فوق " الحجم يقابله الصغير أو الأصغر منه ، و " فوق " المنزلة يكون بمعنى الفضيلة كقوله تعالى : ( ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ) ( 43 : 32 ) ( والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ) ( 2 : 212 ) وبمعنى القهر والغلبة كقوله تعالى حكاية عن فرعون : ( وإنا فوقهم قاهرون ) ( 7 : 127 ) وبه فسروا هذه الآية وما قبلها .

                          وأما إرسال الحفظة على الناس فمعناه إرسالهم مراقبين عليهم من حيث لا يشعرون - كمراقبة رجال البوليس السري في حكومات عصرنا - محصين لأعمالهم بكتابتها وحفظها في الصحف التي تنشر يوم الحساب ، وهي المرادة بقوله تعالى : ( وإذا الصحف نشرت ) ( 81 : 10 ) وهؤلاء الحفظة هم الملائكة الذين قال الله تعالى فيهم : ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ) ( 82 : 10 - 12 ) ولم يرد في كلام الله ولا كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - بيان تفصيلي لصفة هذه الكتابة ، فنؤمن بها كما نؤمن بكتابة الله تعالى لمقادير السماوات والأرض ، ولا نتحكم فيها بآرائنا ، وأمثل ما أولت به أنها عبارة عن تأثير الأعمال في النفس ، وأنه يكون بفعل الملائكة . وقيل : إن الحفظة من الملائكة غير الكاتبين للأعمال ، وهم المعقبات في قوله تعالى من سورة الرعد : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) ( 13 : 11 ) قيل : إنهم ملائكة يحفظونه من الجن والشياطين ، وقيل : من كل ضرر يكون عرضة له لم يكن مقدرا أن يصيبه ، فإذا جاء القدر تخلوا عنه ، ولكن لم يصح في ذلك شيء يعتد به . وفي هذه الآية أقوال أخرى لأهل التفسير المأثور ؛ منها أنها خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنها نزلت [ ص: 402 ] حين أراد أربد بن قيس وعامر بن الطفيل قتله ، على أن يلهيه الثاني بالحديث فيقتله الأول ، فلما وضع يده على السيف يبست على قائمته فلم يستطع سله . ومنها أنها في الكرام الكاتبين . ومنها أنها في الأمراء والملوك الذين يتخذون الحرس الجلاوزة يحفظونهم ممن يريد قتلهم ، وروى ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال في الآية : الملوك يتخذون الحرس يحفظونه من أمامه ومن خلفه وعن يمينه وشماله يحفظونه من القتل ، ألم تسمع أن الله تعالى يقول : ( وإذا أراد الله بقوم سوءا 13 : 11 ) لم يغن الحرس عنه شيئا . وهذا المعنى هو الذي يناسب قوله تعالى قبل هذه الآية : ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار له معقبات ) ( 10 ، 11 ) الآية ، وسيأتي تفصيل ذلك في محله إن شاء الله تعالى .

                          وليس عندنا من الأحاديث الصحاح في هذه المسألة إلا حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما مرفوعا " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون ، وأتيناهم وهم يصلون " وروي بلفظ " والملائكة يتعاقبون فيكم " بواو وبغير واو ، لكن لم يرد ذلك في تفسير آية الرعد ، فإذا كان هؤلاء الملائكة هم الحفظة الكاتبين فلا محل لاختلاف العلماء في تجددهم وتعاقبهم .

                          وذكروا من الحكمة في كتابة الأعمال وحفظها على العاملين أن المكلف إذا علم أن أعماله تحفظ عليه وتعرض على رءوس الأشهاد ، كان ذلك أزجر له عن الفواحش والمنكرات ، وأبعث له على التزام الأعمال الصالحة ، فإن لم يصل إلى مقام العلم الراسخ الذي يثمر الخشية لله عز وجل ، والمعرفة الكاملة التي تثمر الحياء منه سبحانه والمراقبة له ، يغلب عليها الغرور بالكرم الإلهي والرجاء في مغفرته ورحمته تعالى ، فلا يكون لديهم من خشيته والحياء منه ما يزجرهم عن معصيته كما يزجرهم توقع الفضيحة في موقف الحساب على أعين الخلائق وأسماعهم ، وزاد الرازي احتمال أن تكون فائدتها أن توزن تلك الصحف ؛ لأن وزنها ممكن ووزن الأعمال غير ممكن ، - كذا قال . وهو احتمال ضعيف ، بل لا قيمة له ؛ لأنه مبني على تشبيه وزن الله للأمور المعنوية بوزن البشر للأثقال الجسمية .

                          وأما بيان هذه الحكمة على الطريقة التي جرينا عليها في بيان حكمة مقادير الخلق فتعلم مما مر هنالك ، وأما على طريقة من يقولون إن المراد بكتابة الأعمال حفظ صورها وآثارها في النفس ، فهي أنها تكون المظهر الأتم الأجلى لحجة الله البالغة ، فإذا وضع كتاب كل أحد يوم [ ص: 403 ] الحساب ونشرت صحفه المطوية في سريرة نفسه تعرض عليه أعماله فيها بصورها ومعانيها فتتمثل لذاكرته ولحسه الظاهر والباطن كما عملها في الدنيا لا يفوته شيء من صفاتها الحسية ولا المعنوية - كاللذة والألم - فيكون حسيبا على نفسه ، وعلى عين اليقين من عدل الله وفضله : ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) ( 17 : 13 ، 14 ) . ( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا 18 : 49 ) .

                          ( حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ) قرأ حمزة ( توفاه ) بألف ممالة بعد الفاء ، والباقون ( توفته ) بالتاء بعد الفاء ، ورسمهما في مصحف الإمام واحد هكذا ( توفته ) لأن الألف رسمت ياء كأصلها ، والمعنى أنه تعالى يرسل عليكم حفظة من الملائكة يراقبونكم ويحصون عليكم أعمالكم مدة حياتكم ، حتى إذا جاء أحدكم الموت وانتهى عمله توفته أي فبضت روحه رسلنا الموكلون بذلك من الملائكة ، وهؤلاء الرسل هم أعوان ملك الموت الذي قال الله فيه : ( قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون 32 : 11 ) فالأرواح أصناف كثيرة ، لكل منها مستقر في البرزخ يليق به ، وللموت أصناف كثيرة ، لكل منها سنن ونظام في الحياة خاص به فقبض الألوف من الأرواح في كل لحظة ، ووضعها في المواضع اللائقة بها عمل عظيم واسع النطاق ، يقوم بإدارته ونظامه رسل كثيرون وكل عمل منظم لا بد أن تكون له جهة واحدة هي مكان الرياسة والنظام منه ، وروى ابن جرير وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه سئل عن ملك الموت ، أهو وحده الذي يقبض الأرواح ؟ قال : هو الذي يلي أمر الأرواح ، وله أعوان على ذلك ، وقرأ الآية ثم قال : غير أن ملك الموت هو الرئيس إلخ . وروي عن إبراهيم النخعي ومجاهد وقتادة : أن الأعوان يقبضون الأرواح من الأبدان ثم يدفعونها إلى ملك الموت ، فكل منهما متوف ، وعن الكلبي أن ملك الموت هو الذي يتولى القبض بنفسه ويدفعها إلى الأعوان ، فإن كان الميت مؤمنا دفعها إلى ملائكة الرحمة ، وإن كان كافرا دفعها إلى ملائكة العذاب ، أي وهم يذهبون بالأرواح إلى حيث يوجههم بأمر الله تعالى .

                          وقد أسند التوفي إلى الله تعالى في آية الزمر التي ذكرناها في أول تفسير الآية التي قبل هذه ( ص 399 ) إما على أنه هو الآمر لملك الموت ولأعوانه جميعا بذلك - وهو ما صرحوا به - وإما على أنه هو الفاعل الحقيقي والمسخر لملك الموت وأعوانه ، فهم بأمره يعملون ، وبتسخيره يتصرفون ، لا يعتدون في تنفيذ إرادته ولا يفرطون ، والتفريط التقصير بنحو التواني والتأخير ، وتقدم معناه في تفسير ( ما فرطنا في الكتاب من شيء 38 ) وقرأ الأعرج [ ص: 404 ] ( يفرطون ) من الإفراط المقابل للتفريط ، أي لا يتجاوزون ولا يعتدون فيه ، ومعناه صحيح . ولكن الحاجة إلى نفي الإفراط غير قوية ، والآية تدل على عصمة الملائكة كما قال المفسرون .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية