الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم ذكر الشيخ عبد القاهر أن بين الحصرين فرقا لا ينافيه ما قاله الزجاج وغيره من أئمة اللغة في كون كل من الصيغتين للحصر وأورد أمثلة لذلك يظهر منها أنه لا يصح أن يقع كل منهما في مكان الآخر . ثم قال : اعلم أن موضوع " إنما " على أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته أو لما ينزل هذه المنزلة . تفسير ذلك أنك تقول للرجل : إنما هو أخوك وإنما هو صاحبك القديم . لا تقوله لمن يجهل ذلك ويدفع صحته ولكن لمن يعلمه ويقر به إلا أنك تريد أن تنبهه للذي يجب عليه من حق الأخ وحرمة الصاحب . . . . . .

                          ومثاله من التنزيل قوله تعالى : ( إنما يستجيب الذين يسمعون ) ( 36 ) وقوله عز وجل : ( إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ) ( 36 : 11 ) وقوله تعالى : ( إنما أنت منذر من يخشاها ) ( 79 : 45 ) كل ذلك تذكير بأمر معلوم ، وذلك أن كل عاقل يعلم أنه لا تكون استجابة إلا ممن يسمع ويعقل ما يقال له ويدعى إليه ، وأن من لم يسمع ولم يعقل لم يستجب وكذلك معلوم أن الإنذار إنما يكون إنذارا ويكون له تأثير إذا كان مع من يؤمن بالله ويخشاه ويصدق بالبعث والساعة ، فأما الكافر الجاهل فالإنذار وترك الإنذار معه واحد ثم قال بعد أمثلة أخرى :

                          وأما الخبر بالنفي والإثبات نحو : ما هذا إلا كذا ، وإن هو إلا كذا ، فيكون للأمر ينكره المخاطب ويشك فيه . فإذا قلت : ما هو إلا مصيب ، أو ما هو إلا مخطئ - قلته لمن يدفع أن يكون الأمر على ما قلته . وإذا رأيت شخصا من بعيد فقلت : ما هو إلا زيد - لم تقله إلا وصاحبك يتوهم أنه ليس بزيد وأنه إنسان آخر ويجد في الإنكار أن يكون زيدا ثم بين بعد أمثلة ظاهرة في القاعدة أن قوله تعالى حكاية لقول الكفار لرسلهم : ( إن أنتم إلا بشر مثلنا ) ( 14 : 10 ) إنما جاء بالنفي والإثبات دون " إنما " مع أنه معروف عند الفريقين لأنهم جعلوا الرسل كأنهم بادعائهم النبوة قد أخرجوا أنفسهم عن كونهم بشرا مثلهم وادعوا أمرا لا يجوز أن يكون لمن هو بشر . ولما كان الأمر كذلك أخرج اللفظ مخرجه حيث يراد أمر يدفعه المخاطب ويدعي خلافه . ثم جاء الجواب من الرسل الذي هو قوله تعالى : ( قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ) ( 14 : 11 ) كذلك بـ " إن " و " إلا " دون " إنما " - [ ص: 141 ] لأن من حكم من ادعى عليه خصمه الخلاف في أمر هو لا يخالف فيه أن يعيد كلام الخصم على وجهه ويحكيه كما هو اهـ . ملخصا من الفصل الأول في مسائل " إنما " وصرح في الفصل الثاني بأن " إنما " تفيد في الكلام بعدها إيجاب الفعل لشيء ونفيه عن غيره ، وأطال في الأمثلة وشرحها كعادته .

                          وهذا التحقيق ينطبق على الآيات الثلاث في حصر محرمات الطعام في الأنواع الأربعة فآية الأنعام التي نحن بصدد تفسيرها جاءت في سياق الرد على المشركين فيما افتروه من تحريم ما لم يحرم الله ، مع ادعائهم أنه حرمه افتراء عليه تعالى . كما تقدم شرحه - فجاء حصر التحريم فيما ذكر فيها بالنفي والإثبات ، لأنهم كانوا يجهلونه وينكرونه ، على أن المسلمين لم يكونوا يعرفونه أيضا لأنه أول ما نزل في المسألة ; ولذلك فسر به قوله تعالى قبله من السورة : ( وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم ) ( 6 : 119 ) ولم يفسر بآية النحل مع أنها مكية ، لأن المروي أن الأنعام نزلت قبل النحل ، ثم جاءت آية النحل بـ " إنما " على قاعدته كما سيأتي ، والظاهر أن الخطاب فيها للناس كافة مؤمنهم وكافرهم وإن جاءت في سياق الكلام عن المشركين ، وإلا كان جعلها التفاتا إلى مخاطبة المؤمنين أرجح من جعلها خاصة بخطاب المشركين ، فإنها مع الآية التي قبلها كآيتي البقرة من حيث إن بيان المحرمات في السورتين جاء بعد الأمر بأكل الحلال الطيب والشكر لله الذي يقتضي إفراده بالعبادة . وهذا نصهما ( فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ) ( 16 : 114 ، 115 ) وإنما اخترنا أنها خطاب للناس كافة لمناسبة السياق ، ولأن آيتي البقرة قد جاءتا بعد آية في خطاب الناس كافة وهي : ( فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ) ( 2 : 168 ) فتكون آيتا النحل بمعنى الآيات الثلاث في البقرة بمعونة السياق والإيجاز في السورة المكية كالإطناب في السور المدنية كل منهما معهود ، وبينا سببه من قبل فعلى هذا تكون الآية الأولى من الآيات الثلاث في تحريم محرمات الطعام أنزلت بيانا لحكم الله في سياق الاحتجاج على المشركين المنكرين لمضمونه . بما كانوا يحلون ويحرمون بأهوائهم ويفترون على الله تعالى - كما تقدم ، ولم يكن سبقها بيان من الوحي في ذلك فجاءت بحصر النفي والإثبات على القاعدة ، ثم أنزلت آية النحل مؤكدة لمضمونها في خطاب الناس كافة وهم أمة الدعوة في سياق منة الله تعالى عليهم ومطالبتهم بشكرها فإن سورة النحل هي السورة التي خص أسلوبها بسرد نعم الله على عباده ثم أنزلت آية البقرة بعد الهجرة مؤكدة لمضمون آية النحل في خطاب المؤمنين خاصة ، وعبر في كل منهما عن الحصر بـ " إنما " على القاعدة لأن هذا الحصر كان معروفا ومقررا بآية الأنعام . [ ص: 142 ] وإذا تقرر هذا فهو حجة على أنه لا يمكن بعد هذا التأكيد المكرر بصيغتي الحصر ومما سيأتي أيضا أن يكون الحكم قابلا للنسخ والتبديل ، بل يجب أن يكون من الأصول الثابتة العامة التي لا تقبل النسخ ولا التخصيص ، فهي نفسها مخصصة للآيات الدالة على إباحة منافع الأرض كلها للناس ، وأن الأصل في الانتفاع بالأشياء كلها الحل ، وليس في كتاب الله تخصيص آخر لذلك ولا في الأخبار المتواترة عن رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما هنالك أخبار آحاد ليست قطعية النص ولا الدلالة على التحريم كما علمت - وأشهرها وأقواها حديث تحريم الحمر الأهلية الذي قال فيه الزهري - أحد أركان رواته وهو أعلم التابعين بالسنة في وطنها الأعظم وهو الحجاز - إنه لم يسمع به في الحجاز حتى إذا جاء الشام سمعه من أحد فقهائها فكيف حرم ذلك في الحجاز وبلغ للناس في جيش عظيم فيه وبقي إلى زمن الرواية والتدوين خفيا عن مثل الزهري في سعة علمه وعنايته بالرواية ؟ ومذهب جماهير علماء الأصول من السلف والخلف أن الأصل عدم النسخ وأن أخبار الآحاد لا ينسخ القرآن ; لأن الناسخ يجب أن يكون مساويا للمنسوخ في القوة أو أقوى منه . قال إلكيا الهراسي : وهذا مما قضى به العقل ، بل دل عليه الإجماع ، فإن الصحابة لم ينسخوا نص القرآن بخبر الواحد ، ونقل جماعة منهم الإجماع على عدم وقوعه ، منهم ابن السمعاني وصاحب التقريب وأبو إسحاق الشيرازي في اللمع والقاضي أبو الطيب في الكفاية ، ولكن حكى ابن حزم وقوعه ، وهي رواية عن أحمد .

                          وجعل بعضهم أخبار الآحاد في تحريم الحمر الأهلية والسباع مخصصة لعموم حل ما عدا الأربعة المنصوص على حصر التحريم فيها ، والجمهور يقولون بتخصيص خبر الواحد للكتاب ، ومنعه بعض الحنابلة مطلقا ، وأناس آخرون بقيود معروفة في مواضعها . ورد بأن هذا نسخ لا تخصيص ، وجزم بذلك الرازي ويؤيده بعض ما ذكروه من الفروق بينهما ككون التخصيص يجب أن يكون على الفور ولا يجوز تأخيره عن وقت العمل بالمخصوص والنسخ بخلاف ذلك ، وأنه عبارة عن بيان ما أريد بالعموم ، وأنه يؤذن بأن المراد بالعموم عند الخطاب ما عداه ، ولا يصح شيء من هذه المعاني في مسألتنا ، فإن عموم إباحة ما عدا الأنواع الأربعة كان في أوائل الإسلام بمكة ، وما ذكر من تحريم الحمر الأهلية والسباع كان في أواخر سني الهجرة بخيبر سنة سبع ، ولو أراد الله تخصيصه عند إنزال آية المائدة لما عبر عنه بصيغة الحصر ، ولما أكده بعدها مرارا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية