الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ومن المصائب على البشر أن أكثر المؤمنين بطب الدين الروحي في هذه القرون الأخيرة لا يقفون فيها عند حدود ما أنزل الله على رسوله وما فهمه منه حملته من السلف الصالح ، بل زادوا وما زالوا يزيدون فيه من الخرافات والبدع والضلالات ، ما جعلهم حجة على دينهم وفتنة للذين كفروا ينفرونهم منه - فتراهم لا يتقون الوسواس الضار الذي يجدونه في خواطرهم كما يجب ، وإنما يتبعون في الجن والشياطين تضليل الدجالين والدجالات ، كزعمهم أن الشياطين يمرضون الأجساد ويخطفون الأطفال . وأن لهؤلاء الدجالين صلة بهم وتأثيرا في حملهم على ترك الضرر والمساعدة على النفع بشفاء المرضى ورد المفقودين ، والحب والبغض بين الأزواج والعشاق ، ومن ذلك الزار الذي يخرجون به الشياطين من الأجساد بزعمهم ، ولهذه الخرافات مضار ورزايا كثيرة في الأبدان والأرواح والأموال والأعراض . فهي بذلك شبهة كبيرة للماديين على المتدينين المقلدين للجهال والدجالين . والدين لم يثبت للشياطين ما يزعمه الدجالون ، ولم يثبت لهم ولا لغيرهم ما يدعونه من التصرف فيهم ، وإنما يثبت كتاب الله تعالى للشياطين وسوسة هي من الأسباب العادية للتأثير في القلوب المستعدة لها كتأثير جنة الهوام في الأجساد المستعدة . وأن مقاومة كل منهما في استطاعة الإنسان ، وقد أرشده إليه القرآن ، وصرح في هذه الآية بأن الشياطين يرون الناس من حيث لا يراهم الناس ، وهؤلاء الدجالون ينفون ما أثبت كتاب الله ويثبتون ما نفاه . ويقولون بغير علم .

                          روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى الجن الذين استمعوا القرآن منه مستدلا بقوله تعالى : ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) ( 72 : 1 ) ولكن [ ص: 328 ] روي عن ابن مسعود أنه رآهم ، وفي أحاديث أخرى أنه كان يرى الشياطين ، وكان الشافعي رحمه الله يرى أن رؤيتهم من الخوارق الخاصة بالأنبياء ، فقد روى البيهقي في مناقبه عن صاحبه الربيع أنه سمعه يقول : من زعم أنه يرى الجن رددنا شهادته إلا أن يكون نبيا .

                          وخصه بعضهم برؤيتهم على صورتهم التي خلقوا عليها ، واختلفت فرق المسلمين في تشكلهم بالصور ، فالجمهور يثبتونه ولكن بعضهم يقول : إنه تخييل لا حقيقة ، وهو مروي عن عمر رضي الله عنه فقد قال ما معناه : إن أحدا لا يستطيع تغيير الصورة التي خلقه الله عليها ولكن تخييل كتخييل سحرة الإنس - وتقدم نص الرواية في بحث استهواء الشياطين من سورة الأنعام وما فيها - وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال : " أي رجل منكم تخيل له الشيطان فلا يصدن عنه وليمض قدما فإنهم منكم أشد فرقا منكم منهم " إلخ . وهو صحيح في كون الشياطين وسائر الجن العاقلة تخاف من البشر الذين خلقهم الله تعالى أرقى منهم ، كجن الحشرات الذين ورد في الحديث أن منها ما يطير ومنها حيات وعقارب ، وقد فصلنا القول فيما ورد في الجن وما قيل فيهم في مواضع من التفسير ومن المنار ولا حجة في شيء منها لهؤلاء الدجالين الذين يأكلون أموال جهلة العوام بالباطل ، بولايتهم للشياطين وولاية الشياطين لهم ، وقد خوفوا الناس منهم حتى أوقعوا الرعب في قلوبهم ، وأوقعوهم في ضلالات كثيرة .

                          إن مفاسد ( الزار ) كثيرة مشهورة في هذه البلاد ، وقد وصفناها من قبل في المنار . وسببها اعتقاد الكثيرات من النساء المريضات بأمراض عادية - ولا سيما إذا كانت عصبية - أن الشياطين قد دخلت في أجسادهن . وأن صانعات الزار يخرجنهم منها بإرضائهم والتقرب إليهم بالقرابين وغيرها . وهذا نوع من عبادة الجن التي كانت في الجاهلية فأزالها الإسلام بإصلاحه ، ولما جهل الإسلام في كثير من البلاد وقبائل البدو عادت إلى أهلها . وقد كان من حسنات تأثير الشيخ محمد بن عبد الوهاب المجدد للإسلام في نجد إبطال عبادة الجن وغير الجن منها ، ولم يبق فيها إلا أهل تجريد التوحيد وإخلاص العبادة لله ، ولكن علماء الأزهر هنا لا يعنون أقل عناية بمقاومة هذه البدع والخرافات وأمثالها ، ولا المعاصي الفاشية في هذه البلاد .

                          ونحن نذكر من ذلك واقعة وقفنا عليها من امرأة كانت تأتينا باللبن كل صباح من ريف الجيزة . وهي أن ولدها غرق في النيل فسألت عنه بعض الدجالين فأخبرها بأن أحد الأسياد ( أي عفاريت الجن ) أنقذه ووضعه عنده ، فهو يعيش في ضيق وشظف ، وأنه هو يمكنه أن يوصل إليه ما تجود به والدته عليه ، فكانت تعطيه ما تقدر عليه من الطعام والدجاج والحمام المقلي مع شيء من الدراهم أجرة لنقله ، وتعتقد أن ذلك كله يصل إلى ولدها عند العفريت الذي أخذه ، ويكون سببا لحسن معاملته له ، وربما يطلقه بعد ، وما زال أهل بيتنا ينصحن [ ص: 329 ] لها بترك ذلك الدجال المفتري المحتال حتى أقنعنها بكذبه بعد أن خسرت كل ما كانت تربحه من بيع اللبن في سبيله .

                          فإن قيل إن الأناجيل أثبتت أن الشياطين تدخل في أجساد الناس وتصرعهم ، وأن المسيح عليه السلام كان يخرج هذه الشياطين بإذن الله تعالى منهم ، وفي القرآن المجيد ما يشير إلى ذلك في قوله تعالى : ( كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) ( 2 : 275 ) وإن قالوا إنه تمثيل حكى به ما كان مألوفا عند العرب . وقد حكي عن بعض العلماء المحققين دون الخرافيين وقائع فيه كوقائع الإنجيل ، ومن ذلك ما حكاه العلامة ابن القيم عن أستاذه شيخ الإسلام ابن تيمية ، فهل تنكر كل ذلك أم ماذا تقول فيه ؟

                          فالجواب : إننا وإن كنا لا نعرف لهذه الأناجيل أسانيد صحيحة متصلة ، وقد أمرنا ألا نصدق أهل الكتاب ولا نكذبهم فيما لا حجة له أو عليه في كتابنا - وإن كان شيخا الإسلام من أجل الثقات عندنا فيما يرويان عن أنفسهما وعن غيرهما بالجزم - فإننا نقول : إن وقائع الأحوال في هذا المقام فيها إجمال ، هي به قابلة لأنواع شتى من الاحتمال . على أن ما يؤخذ منها على ظاهره لا حجة فيه على شيء من أعمال الدجالين التي ينكرها الشرع والعقل ، وأين دجل هؤلاء الفساق المحتالين من معجزة أو كرامة يكرم الله بها نبيا مرسلا أو وليا صالحا ، فيشفي على يديه مصروعا ألم به الشيطان أم لم يلم ، وما إلمام الشيطان ببعض الناس بالمحال عقلا حتى نحار في فهم أمثال هذه الروايات النادرة عند أهل الكتاب وعندنا بل عند جميع الأمم ، وأن بعض الأمراض العصبية التي يصرع أصحابها لابسهم الشيطان فيها أم لا لتشفى بتأثير الاعتقاد وبتأثير إرادة الأرواح القوية إذا توجهت إلى الله تعالى سائلة شفاءها ، وما نحن بالذين يدارون الماديين أو يبالون بإنكارهم لكل ما لا يثبته الحس لهم ، بل نرى أن جملة ما روي عن الأنبياء والعلماء وما اشتهر عند كل الأمم يفيد في مجموعه التواتر المعنوي في إثبات أصل لهذه المسألة .

                          وما لنا لا نذكر أنه قد وقع لنا من ذلك ما يعده كثير من الناس أمرا عظيما ويستبعدون أن يكون من فلتات الاتفاق ونوادر المصادفات . من ذلك أنه كان في بلدنا ( القلمون ) في سورية رجل صياد اسمه ( عمر كسن ) رمى شبكته ليلة في البحر فسمع صوتا غير مألوف فما لبث بعد ذلك أن صار يصرع ، ويخيل هجوم فئة من الجن عليه يضربونه متهمين إياه بإصابة فتاة منهم ، ورآني وهو غائب عن الحس بالهيئة التي كنت أخلو فيها للعبادة وذكر الله في حجرة خاصة ، وبيدي مخصرة قصيرة من الأبنوس كنت أعتمد عليها - ولم يكن رأى ذلك قط - رآني أطرد الجن عنه بهذه المخصرة ، وكان أهله قد ذكروا لي أمره ، ثم دعوني إلى رؤيته ورقيته والدعاء له ، فذهبت فألفيته مغمى عليه لا يرى ولا يسمع ممن [ ص: 330 ] حوله شيئا ، ولكن كان يقول : جاء سيدنا الشيخ رشيد . . . . ولما رأيته على هذه الحالة توجهت إلى الله تعالى بإخلاص وخشوع ووضعت يدي على رأسه وقلت : بسم الله الرحمن الرحيم ( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) ففتح عينيه وقام كأنما نشط من عقال ، ثم عاد إليه هذا بعد زمن طويل لا أذكره وشفاه تعالى وأذهب عنه الروع ثانية بنحو مما أذهبه عنه في المرة الأولى ، ولكنني لم أر أولئك الجن الذين كان يراني أجادلهم وأذودهم عنه ، والواقعة تحتمل التأويل عندي ، ولا أعدها دليلا قطعيا على كون صرعه كان من الجن ، كما أنه لا مانع عندي أن يكون منهم ، وقد ذكرت هذه الواقعة لشهرتها عندنا في البلد وكثرة من شهدها .

                          وقد يكون من غريب الاتفاق أنني كنت أعاشر بعض أصحاب هذا الصرع ولكن لم يكن يحدث لهم وأنا معهم قط ، ومنهم حموده بك أخو شيخنا الأستاذ الإمام ، كنت أكثر الناس معاشرة لهم ، وما من أحد كان يكثر زيارتهم إلا ورأى حموده يصرع ولا سيما بعد اشتداد النوبات عليه في أثناء مرض الشيخ وبعده ، حتى كانت ربما تتعدد في اليوم الواحد ، ولكنني كنت أمكث عندهم في الإسكندرية الأيام والليالي ، ولم يقع له شيء من ذلك أمامي . ومثله في ذلك صديقنا محمد شريف الفاروقي - رحمهما الله تعالى - ولا أستبعد أن يكون لبعض الأرواح تأثير في بعض بإذن الله تعالى ، كما لا أنفي على سبيل القطع أن يكون ذلك من نوادر الاتفاق ، وكان شيوخ بلدنا ينقلون عن جدي الثالث غرائب في هذا الباب .

                          وإنني لم أذكر هذا إلا لأمرين ، أحدهما : ألا يظن ظان أني أميل في تشددي في كشف غش الدجالين إلى آراء الماديين وثانيهما : ألا يجعل أحد ما نقل عن مثل شيخ الإسلام من إرساله رسولا إلى المصروع يخرج منه الشيطان حجة على من ينكر دجل هؤلاء الضالين من عباد الشياطين أو الدعاة إلى عبادتهم ، بتخويف الناس مما لا يخيف منهم ، أو التقرب إليهم بما يعد عبادة لهم ، كما يعبد اليزيدية إبليس جهرا بدعوى أنهم بذلك يتقون شره والعياذ بالله تعالى . فأمثال هؤلاء الدجالين وأتباعهم هم الذين قال الله تعالى فيهم :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية