الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الرابع والعشرون : إطلاق الفعل والمراد مقاربته ومشارفته لا حقيقته . كقوله - تعالى - : فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن ( الطلاق : 2 ) أي قاربن بلوغ الأجل ، أي انقضاء العدة ؛ لأن الإمساك لا يكون بعد انقضاء العدة فيكون بلوغ الأجل تمامه ؛ كقوله - تعالى - : فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن ( البقرة : 232 ) أي أتممن العدة وأردن مراجعة الأزواج ، ولو كانت مقاربته لم يكن للولي حكم في إزالة الرجعة ؛ لأنها بيد الزوج ، ولو كان الطلاق غير رجعي لم يكن للولي أيضا عليها حكم قبل تمام العدة ، ولا تسمى عاضلا حتى يمنعها تمام العدة من المراجعة .

[ ص: 405 ] ومثله قوله - تعالى - : فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ( النحل : 61 ) المعنى قارب ، وبه يندفع السؤال المشهور فيها ، إن عند مجيء الأجل لا يتصور تقديم ولا تأخير . وقوله - تعالى - : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ( البقرة : 180 ) أي قارب حضور الموت .

وقوله - تعالى - : كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم بغتة ( الشعراء : 200 - 202 ) أي حتى يشارفوا الرؤية ويقاربوها .

ويحتمل أن تحمل الرؤية على حقيقتها ؛ وذلك على أن يكون : يرونه فلا يظنونه عذابا . وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم ( الطور : 44 ) أي يعتقدونه عذابا ، ولا يظنونه واقعا بهم ، وحينئذ فيكون أخذه لهم بغتة بعد رؤيته .

ومن دقيق هذا النوع قوله - تعالى - : ونادى نوح ربه ( هود : 45 ) المراد قارب النداء ، لا أوقع النداء ، لدخول الفاء في ( فقال ) فإنه لو وقع النداء لسقطت ، وكان ما ذكر تفسيرا للنداء ، كقوله - تعالى - : هنالك دعا زكريا ربه قال ( آل عمران : 38 ) وقوله : إذ نادى ربه نداء خفيا قال رب ( مريم : 3 - 4 ) لما فسر النداء سقطت الفاء .

وذكر النحاة أن هذه الفاء تفسيرية ؛ لأنها عطفت مفسرا على مجمل ، كقوله : توضأ فغسل وجهه . وفائدة ذلك أن نوحا عليه السلام أراد ذلك ، فرد القصد إليه ولم يقع ، لا عن قصد .

ومنه قوله - تعالى - : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم ( النساء : 9 ) أي وليخش الذين إن شارفوا أن يتركوا ، وإنما أول الترك بمشارفة الترك ؛ لأن الخطاب للأوصياء إنما يتوجه إليهم قبل الترك ؛ لأنهم بعده أموات .

وقريب منه إطلاق الفعل وإرادة إرادته ، كقوله - تعالى - : فإذا قرأت القرآن فاستعذ ( النحل : 98 ) أي إذا أردت . وقوله : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ( المائدة : 6 ) أي [ ص: 406 ] إذا أردتم ، لأن الإرادة سبب القيام . إذا قضى أمرا ( مريم : 35 ) أي إذا أراد . وإن حكمت فاحكم بينهم ( المائدة : 42 ) أي أردت الحكم .

ومثله : وإذا حكمتم بين الناس ( النساء : 58 ) .

إذا ناجيتم الرسول ( المجادلة : 12 ) أي أردتم مناجاته إذا طلقتم النساء ( الطلاق : 1 ) ، وقوله : من يهد الله فهو المهتدي ( الأعراف : 178 ) قال ابن عباس : من يرد الله هدايته ؛ ولقد أحسن - رضي الله عنه - لئلا يتحد الشرط والجزاء .

وقوله : وإذا قلتم فاعدلوا ( الأنعام : 152 ) أي إذا أردتم القول .

والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ( الفرقان : 67 ) أي إذا أرادوا الإنفاق .

وقوله - تعالى - : وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا ( الأعراف : 4 ) لأن الإهلاك إنما هو بعد مجيء البأس ؛ وإنما خص هذين الوقتين - أعني البيات والقيلولة - لأنها وقت الغفلة والدعة ، فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأفظع .

وقوله - تعالى - : ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها ( الأنبياء : 6 ) أي أردنا إهلاكها . فانتقمنا منهم فأغرقناهم ( الأعراف : 136 ) أي فأردنا الانتقام منهم ؛ وحكمته أنا إذا أردنا أمرا نقدر فيه إرادتنا ، وإن كان خارقا للعادة .

وقال الزمخشري في قوله - تعالى - : قالوا يانوح قد جادلتنا ( هود : 32 ) أي أردت جدالنا وشرعت فيه ؛ وكان الموجب لهذا التقدير خوف التكرار ؛ لأن " جادلت " " فاعلت " وهو يعطي التكرار ، أو أن المعنى : لم ترد منا غير الجدال له لا النصيحة .

قلت : وإنما عبروا عن إرادة الفعل بالفعل ؛ لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل وإرادته وقصده إليه ، كما عبر بالفعل من القدرة على الفعل في قولهم : الإنسان لا يطير ، والأعمى لا يبصر ؛ أي يقدر على الطيران والإبصار ؛ وإنما حمل على ذلك دون الحمل على ظاهره للدلالة على جواز الصلاة بوضوء [ ص: 407 ] واحد ، والحمل على الظاهر يوجب أن من جلس يتوضأ . ثم قام إلى الصلاة يلزمه وضوء آخر ، فلا يزال مشغولا بالوضوء ولا يتفرغ للصلاة . وفساده بين .

التالي السابق


الخدمات العلمية