الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب جامع الوقوت

                                                                                                          حدثني يحيى عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          5 - باب جامع الوقوت

                                                                                                          21 21 - ( مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الذي تفوته صلاة العصر ) قال ابن بزيزة : فيه رد على من كره أن يقال : فاتتنا الصلاة .

                                                                                                          ( كأنما وتر ) بضم الواو وكسر الفوقية ، ونائب الفاعل ضمير عائد على الذي يفوته ؛ أي : هو ، فقوله : ( أهله وماله ) بالنصب في رواية الجمهور مفعول ثان لوتر إذ يتعدى لمفعولين كقوله : ولن يتركم أعمالكم ( سورة محمد : الآية 35 ) والمعنى : أصيب بأهله وماله . وقيل : " وتر " بمعنى نقص ؛ فيرفع وينصب ؛ لأن من رد النقص إلى الرجل نصب وأضمر نائب الفاعل ، ومن رده إلى الأهل رفع .

                                                                                                          وقال القرطبي : روي بالنصب على أن " وتر " بمعنى سلب يتعدى لمفعولين ، وبالرفع [ ص: 97 ] على أن وتر بمعنى أخذ ، فأهله هو نائب الفاعل ، وقيل : بدل اشتمال أو بعض ، وقيل النصب على التمييز أي وتر من حيث الأهل نحو : غبن رأيه وألم نفسه ، ومنه : إلا من سفه نفسه ( سورة البقرة : الآية 130 ) في وجه أو على نزع الخافض أي في أهله .

                                                                                                          وقال النووي : روي بنصب اللامين ورفعهما ، والنصب هو الصحيح المشهور على أنه مفعول ثان ، ومن رفع فعلى ما لم يسم فاعله ومعناه انتزع منه أهله وماله وهذا تفسير مالك ، وأما النصب فقال الخطابي وغيره : معناه نقص أهله وماله وسلبهم ، فبقي وترا بلا أهل ولا مال ، فليحذر من تفويتها كحذره من ذهاب أهله وماله .

                                                                                                          وقال ابن عبد البر : معناه عند أهل الفقه واللغة أنه كالذي يصاب بأهله وماله إصابة يطلب بهما وترا ، والوتر الجناية التي تطلب ثأرها ، فيجتمع عليه غمان : غم المصيبة وغم مقاساة طلب الثأر ولذا قال : وتر ، ولم يقل : مات أهله .

                                                                                                          وقال الداودي : معناه يتوجه عليه من الاسترجاع ما يتوجه على من فقدهما ، فيتوجه عليه الندم والأسف لتفويته الصلاة ، وقيل : معناه فاته من الثواب ما يلحقه من الأسف عليه كما يلحق من ذهب أهله وماله .

                                                                                                          وقال الحافظ : حقيقة الوتر كما قال الخليل : هو الظلم في الدم فاستعماله في غيره مجاز ، لكن قال الجوهري : الموتور هو الذي قتل له قتيل فلم يدرك دمه ، ويقال أيضا : وتره حقه أي نقصه ، وقيل : الموتور من أخذ أهله وماله وهو ينظر وذلك أشد لغمه ، فوقع التشبيه بذلك لمن فاتته الصلاة لأنه يجتمع عليه غمان : غم الإثم وغم فوات الصلاة ، كما يجتمع على الموتور غمان : غم السلب وغم الثأر .

                                                                                                          ويؤيده رواية أبي مسلم الكجي من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع في آخر الحديث وهو قاعد ، فهو إشارة إلى أنهما أخذا منه وهو ينظرهما .

                                                                                                          وقال الحافظ زين الدين العراقي : كأن معناه أنه وتر هذا الوتر وهو قاعد غير مقاتل عنهم ولا ذاب وهو أبلغ في الغم لأنه لو فعل شيئا من ذلك كان أسلى له ، ويحتمل أن معناه وهو مشاهد لتلك المصائب غير غائب عنهم فهو أشد لتحسره ، قال : وإنما خص الأهل والمال بالذكر لأن الاشتغال في وقت العصر إنما هو بالسعي على الأهل والشغل بالمال ، فذكر أن تفويت هذه الصلاة نازل منزلة فقدهما ، فلا معنى لتفويتهما بالاشتغال بهما مع أن تفويتهما كفواتهما أصلا ورأسا ، واختلف في معنى الفوات في هذا الحديث فقال ابن وهب : هو فيمن لم يصلها في وقتها المختار ، وقيل : بغروب الشمس .

                                                                                                          وفي موطأ ابن وهب قال مالك : تفسيرها ذهاب الوقت وهو محتمل للمختار وغيره .

                                                                                                          وأخرج عبد الرزاق هذا الحديث عن ابن جريج عن نافع وزاد في آخره : قلت لنافع : حتى تغيب الشمس ؟ قال : نعم .

                                                                                                          قال الحافظ : وتفسير الراوي إذا كان فقيها أولى من غيره .

                                                                                                          قال السيوطي : وورد مرفوعا ، أخرجه ابن أبي شيبة [ ص: 98 ] عن هشام عن حجاج عن نافع عن ابن عمر مرفوعا : " من ترك العصر حتى تغيب الشمس من غير عذر فكأنما وتر أهله وماله " .

                                                                                                          وقال الأوزاعي : فواتها أن تدخل الشمس صفرة ، أخرجه أبو داود .

                                                                                                          قال الحافظ : ولعله على مذهبه في خروج وقت العصر .

                                                                                                          وقال مغلطاي في العلل لابن أبي حاتم عن أبيه : إن التفسير بذلك من قول نافع .

                                                                                                          وقال المهلب ومن تبعه : إنما أراد فواتها في الجماعة لما يفوته من شهود الملائكة الليلية والنهارية ، ويؤيده رواية ابن منده : الموتور أهله وماله من وتر صلاة الوسطى في جماعة ، وهي صلاة العصر .

                                                                                                          قال المهلب : وليس المراد فواتها باصفرار الشمس أو مغيبها ، إذ لو كان كذلك لبطل اختصاص العصر ، لأن ذهاب الوقت موجود في كل صلاة ونوقض بعين ما ادعاه لأن فوات الجماعة موجود في كل صلاة .

                                                                                                          ويروى عن سالم أن هذا فيمن فاتته ناسيا ، ومشى عليه الترمذي فبوب على الحديث ما جاء في السهو عن وقت العصر ، وعليه فالمراد أنه يلحقه من الأسف عند معاينة الثواب لمن صلى ما يلحق من ذهب أهله وماله ، ويؤخذ منه التنبيه على أن أسف العامد أشد لاجتماع فقد الثواب وحصول الإثم ، وقال الداودي : إنما هو العامد .

                                                                                                          النووي : وهو الأظهر ، وأيد بقوله في الرواية السابقة : من غير عذر . واختلف أيضا في تخصيص صلاة العصر بذلك ، فقيل : نعم ، لزيادة فضلها وأنها الوسطى ولأنها تأتي في وقت تعب الناس في مقاساة أعمالهم وحرصهم على قضاء أشغالهم وتسويفهم بها إلى انقضاء وظائفهم ولاجتماع المتعاقبين من الملائكة فيها ، ورجحه الرافعي والنووي ، وتعقبه ابن المنير بأن الفجر أيضا فيها اجتماع المتعاقبين فلا يختص العصر بذلك ، قال : والحق أن الله تعالى يخص ما شاء من الصلوات بما شاء من الفضيلة .

                                                                                                          وقال ابن عبد البر : يحتمل أن الحديث خرج جوابا لسائل عن من تفوته العصر ، وأنه لو سئل عن غيرها لأجاب بمثل ذلك فيكون حكم سائر الصلوات كذلك ، وتعقبه النووي بأن الحديث ورد في العصر ولم تحقق العلة في هذا الحكم فلا يلحق بها غيرها بالشك والوهم وإنما يلحق غير المنصوص به إذا عرفت العلة واشتركا فيها .

                                                                                                          قال الحافظ : هذا لا يدفع الاحتمال ، وقد احتج ابن عبد البر بما رواه ابن أبي شيبة وغيره من طريق أبي قلابة عن أبي الدرداء مرفوعا : " من ترك صلاة مكتوبة حتى تفوته " الحديث ، وفي إسناده انقطاع لأن أبا قلابة لم يسمع من أبي الدرداء ، وقد رواه أحمد من حديث أبي الدرداء بلفظ : " من ترك العصر " فرجع حديث أبي الدرداء إلى تعيين العصر .

                                                                                                          وروى ابن حبان وغيره من حديث نوفل بن معاوية مرفوعا : " من فاتته الصلاة فكأنما وتر أهله وماله " وهذا ظاهره العموم في الصلوات المكتوبات .

                                                                                                          وأخرجه عبد الرزاق عن نوفل بلفظ : " لأن يوتر أحدكم أهله وماله خير له من أن يفوته وقت صلاة " وهذا أيضا [ ص: 99 ] ظاهره العموم ، ويستفاد منه ترجيح رواية النصب المصدر بها ، لكن المحفوظ من حديث نوفل بلفظ : " من الصلوات صلاة من فاتته فكأنما وتر أهله وماله " أخرجه البخاري ومسلم والطبراني وغيرهم ، وللطبراني من وجه آخر عن الزهري : " قلت لأبي بكر - يعني ابن عبد الرحمن وهو الذي حدثه به : ما هذه الصلاة ؟ قال : العصر " ورواه ابن أبي خيثمة من وجه آخر فصرح بأنها العصر في نفس الخبر ، والمحفوظ أن كونها العصر من تفسير أبي بكر بن عبد الرحمن .

                                                                                                          ورواه الطحاوي من وجه آخر وفيه أن التفسير من قول ابن عمر ، فالظاهر اختصاص العصر بذلك . انتهى .

                                                                                                          قال السيوطي : روى النسائي من طريق عراك بن مالك قال : سمعت نوفل بن معاوية يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من الصلوات صلاة من فاتته فكأنما وتر أهله وماله " فقال ابن عمر : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " هي العصر " . نعم في فوائد تمام من طريق مكحول عن أنس مرفوعا : " من فاتته صلاة المغرب فكأنما وتر أهله وماله " فإن كان راويه حفظ ولم يهم دل ذلك على عدم الاختصاص .

                                                                                                          قال ابن عبد البر : في هذا الحديث إشارة إلى تحقير الدنيا وأن قليل العمل خير من كثير منها .

                                                                                                          وقال ابن بطال : لا يوجد حديث يقوم مقام هذا الحديث لأن الله قال : حافظوا على الصلوات ( سورة البقرة : الآية 238 ) ولا يوجد حديث فيه تكليف المحافظة غير هذا الحديث .

                                                                                                          وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ، ومسلم عن يحيى ، كلاهما عن مالك به .




                                                                                                          الخدمات العلمية