الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                            صفحة جزء
                                                                                            9850 وعن عروة بن الزبير في تسمية الذين خرجوا إلى أرض الحبشة المرة الأولى قبل خروج جعفر وأصحابه : الزبير بن العوام ، وسهل بن بيضاء ، وعامر بن ربيعة ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعثمان بن عفان ، ومعه امرأته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعثمان بن مظعون ، ومصعب بن عمير أحد بني عبد الدار ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ، ولدت له بأرض الحبشة محمد بن أبي حذيفة ، وأبو سبرة بن أبي رهم ، ومعه أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو ، وأبو سلمة بن عبد الأسد ، ومعه امرأته أم سلمة .

                                                                                            قال : ثم رجع هؤلاء الذين ذهبوا المرة الأولى قبل جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين أنزل الله السورة التي يذكر فيها والنجم إذا هوى فقال المشركون من قريش : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ، فإنه لا يذكر أحدا ممن خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر به آلهتنا من الشر والشتم ، فلما أنزل الله السورة الذي يذكر فيها والنجم ، وقرأ : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى [ ص: 33 ] ألقى الشيطان فيها عند ذلك ذكر الطواغيت ، فقال : وإنهن من العرانيق العلا ، وإن شفاعتهم لترتجى ، وذلك من سجع الشيطان وفتنته ، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك ، وذلت بها ألسنتهم ، واستبشروا بها ، وقالوا : إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ، ودين قومه .

                                                                                            فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخر السورة التي فيها النجم سجد ، وسجد معه كل من حضره من مسلم ومشرك ، غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع ملء كفه ترابا فسجد عليه ، فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأما المسلمون فعجبوا من سجود المشركين من غير إيمان ولا يقين ، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان على ألسنة المشركين . وأما المشركون فاطمأنت أنفسهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لما سمعوا الذي ألقى الشيطان في أمنية النبي - صلى الله عليه وسلم - وحدثهم الشيطان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قرأها في السجدة ، فسجدوا لتعظيم آلهتهم ، ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت الحبشة ، فلما سمع عثمان بن مظعون ، وعبد الله بن مسعود ، ومن كان معهم من أهل مكة أن الناس قد أسلموا ، وصاروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه ، أقبلوا سراعا فكبر ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أمسى أتاه جبريل - عليه السلام - فشكا إليه ، فأمره فقرأ عليه ، فلما بلغها تبرأ منها جبريل قال : معاذ الله من هاتين ، ما أنزلهما ربي ، ولا أمرني بهما ربك ، فلما رأى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شق عليه وقال : أطعت الشيطان ، وتكلمت بكلامه ، وشركني في أمر الله . فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأنزل عليه : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم . ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد .

                                                                                            فلما برأه الله عز وجل من سجع الشيطان وفتنته انقلب المشركون بضلالهم وعداوتهم ، وبلغ المسلمون ممن كان بأرض الحبشة ، وقد شارفوا مكة فلم يستطيعوا الرجوع من شدة البلاء الذي أصابهم والجوع والخوف وخافوا أن يدخلوا مكة فيبطش [ ص: 34 ] بهم فلم يدخل رجل منهم إلا بجوار ، فأجار الوليد بن المغيرة عثمان بن مظعون ، فلما أبصر عثمان بن مظعون الذي يلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من البلاء ، وعذبت طائفة منهم بالنار وبالسياط ، وعثمان بن مظعون معافى لا يعرض له ، رجع إلى نفسه فاستحب البلاء على العافية ، وقال : أما من كان في عهد الله وذمته ، وذمة رسوله الذي اختار لأوليائه من أهل الإسلام ، ومن دخل فيه فهو خائف مبتلى بالشدة والكرب ، عمد إلى الوليد بن المغيرة ، فقال : يا ابن عم ، أجرتني فأحسنت جواري ، وإني أحب أن تخرجني إلى عشيرتك ، فتبرأ مني بين أظهرهم . فقال له الوليد : ابن أخي لعل أحدا آذاك أو شتمك وأنت في ذمتي ، فأنت تريد من هو أمنع لك مني ، فأنا أكفيك ذلك ؟ قال : لا والله ما بي ذلك ، وما اعترض لي من أحد ، فلما أبى عثمان إلا أن يتبرأ منه الوليد أخرجه إلى المسجد ، وقريش فيه كأحفل ما كانوا ، ولبيد بن ربيعة الشاعر ينشدهم ، فأخذ الوليد بيد عثمان فأتى به قريشا ، فقال : إن هذا غلبني وحملني على أن أنزل إليه عن جواري ، أشهدكم أني بريء فجلسا مع القوم ، وأخذ لبيد ينشدهم فقال :

                                                                                            ألا كل شيء ما خلا الله باطل

                                                                                            . فقال عثمان : صدقت . ثم إن لبيدا أنشدهم تمام البيت ، فقال :

                                                                                            وكل نعيم لا محالة زائل

                                                                                            . فقال : كذبت . فسكت القوم ولم يدروا ما أراد بكلمته ، ثم أعادها الثانية ، وأمر بذلك ، فلما قالها قال مثل كلمته الأولى والأخرى ، صدقت مرة وكذبت مرة ، وإنما يصدقه إذا ذكر كل شيء يفنى ، وإذا قال : كل نعيم ذاهب كذبه عند ذلك ؛ إن نعيم أهل الجنة لا يزول ، نزع عند ذلك رجل من قريش فلطم عين عثمان بن مظعون ، فاخضرت مكانها ، فقال الوليد بن المغيرة وأصحابه : قد كنت في ذمة مانعة ممنوعة فخرجت منها إلى هذا ، فكنت عما لقيت غنيا ، ثم ضحكوا ، فقال عثمان : بل كنت إلى هذا الذي لقيت منكم فقيرا ، وعيني التي لم تلطم إلى مثل هذا الذي لقيت ، صاحبتها فقيرة لي فيمن هو أحب إلي منكم أسوة ، فقال له الوليد : إن شئت أجرتك الثانية . قال : لا أرب لي في جوارك .
                                                                                            رواه الطبراني هكذا مرسلا ، وفيه ابن لهيعة أيضا .

                                                                                            التالي السابق


                                                                                            الخدمات العلمية