الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 223 ] فصل

[ الصيد حال الإحرام ]

إذا قتل المحرم صيدا أو دل عليه من قتله فعليه الجزاء ، والمبتدئ والعائد والناسي والعامد سواء . والجزاء أن يقوم الصيد عدلان في مكان الصيد ، أو في أقرب المواضع منه ثم إن شاء اشترى بالقيمة هديا فذبحه ، وإن شاء طعاما فتصدق به على كل مسكين نصف صاع من بر ، وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوما ، فإن فضل أقل من نصف صاع إن شاء تصدق به ، وإن شاء صام يوما ومن جرح صيدا ، أو نتف شعره ، أو قطع عضوا منه ضمن ما نقصه ، وإن نتف ريش طائر ، أو قطع قوائم صيد فعليه قيمته ، وإن كسر بيضته فعليه قيمتها ; ومن قتل قملة أو جرادة تصدق بما شاء ، وإن ذبح المحرم صيدا فهو ميتة ; وله أن يأكل ما اصطاده حلال إذا لم يعنه . وكل ما على المفرد فيه دم على القارن فيه دمان .

التالي السابق


فصل

( إذا قتل المحرم صيدا أو دل عليه من قتله فعليه الجزاء ) والأصل في ذلك قوله تعالى :

[ ص: 224 ] ( ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) الآية ، وقوله تعالى : ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) والصيد : هو الحيوان المتوحش في أصل الخلقة ، الممتنع بجناحيه أو بقوائمه ، إلا الخمس الفواسق المستثناة بالحديث فإنها تبدأ بالأذى ، وقد تقدم الكلام فيها ، وصيد البر ما كان توالده في البر . أما الجزاء على القاتل فلقوله تعالى : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ) أوجب الجزاء على القاتل . وأما الدال فلأنه فوت على الصيد الأمن لأن بقاء حياة الصيد بأمنه ، فإنه استحق الأمن إما بالإحرام بقوله تعالى : ( وأنتم حرم ) أو بدخوله الحرم لقوله تعالى : ( ومن دخله كان آمنا ) فإذا دل عليه فقد فوت الأمن المستحق عليه فيجب الجزاء كالمباشر ، ولما روينا من حديث أبي قتادة . والدلالة أن لا يكون المدلول عالما به ، ويصدقه حتى لو كان عالما به ، أو كذبه ودله آخر فصدقه فالجزاء على الثاني ، ولو أعاره سكينا ليقتل الصيد إن كان معه سكين لا شيء عليه ؛ لأنه يتمكن من قتله لا بالإعارة ، وإن لم يكن معه سكين فعلى المعير الجزاء ؛ لأنه إنما تمكن من قتله بإعارته .

( والمبتدئ والعائد والناسي والعامد سواء ) لوجود الجناية منهم وهو الموجب .

قال : ( والجزاء أن يقوم الصيد عدلان في مكان الصيد ، أو في أقرب المواضع منه ، ثم إن شاء اشترى بالقيمة هديا فذبحه ، وإن شاء طعاما فتصدق به ، على كل مسكين نصف صاع من بر ، وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوما ، فإن فضل أقل من نصف صاع ، إن شاء تصدق به ، وإن شاء صام يوما ) والأصل فيه قوله تعالى : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ) إلى قوله : ( أو عدل ذلك صياما ) . والأصل في المثل أن يكون مماثلا صورة ومعنى ، وأنه غير معتبر بالإجماع ، ولا اعتبار للمثل صورة ؛ لأن بعضه خرج عن الإرادة بالإجماع كالعصفور ونحوه ، فلا يبقى الباقي [ ص: 225 ] مرادا لئلا يؤدي إلى الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد ، فتعين أن يعتبر المثل معنى وهو القيمة كما فيما لا نظير له ، وكما في حقوق العباد ، وإذا كان المراد بالجزاء القيمة يقوم العدلان اللحم لا الحيوان في مكان الصيد إن كان مما يباع فيه الصيود ، وإن لم يكن مما يباع فيه كالبرية ففي أقرب المواضع منه ، ثم الخيار للقاتل إن شاء اشترى بالقيمة هديا ، وهو ما تجوز به الأضحية إن بلغت قيمته ذلك ، ويذبحه بمكة لما تقدم ، وإن لم تبلغ ما تجوز به الأضحية لا يذبحه ويتصدق به ; وقالا : يذبحه لإطلاق قوله تعالى : ( هديا بالغ الكعبة ) ولأنه يتقرب به في الجملة إذا ولدته الأضحية والهدي فإنه يذبح مع أمه . ولأبي حنيفة أن القياس يأبى التقرب بالإراقة لكونه إيلام البري على ما عرف وإنما خالفناه في موارد النص وهي الأضحية والمتعة ، ولا يجوز فيهما هذا فيبقى على الأصل وحيث جاز إنما جاز تبعا والكلام في جوازه أصلا ، وإن شاء اشترى طعاما فأطعم كما ذكرنا كما في الفداء والكفارات ، وإن شاء صام على ما وصفنا كما في الفداء ، وإنما يتخير بين هذه الأشياء الثلاثة كما في كفارة اليمين ، وهو مذهب ابن عباس ، وإنما يتخير القاتل لأن الخيار شرع رفقا به ، وذلك إنما يحصل إذا كان التعيين إليه والخيار له ، فإن فضل أقل من نصف صاع أو كان الواجب ، إن شاء تصدق به لأنه كل الواجب ، وإن شاء صام عنه يوما لعدم تجزي الصوم .

وقال محمد : الواجب المثل من حيث الصورة والجثة ، ففي الظبي والضبع شاة ، وفي الأرنب عناق ، وفي اليربوع جفرة ، وفي النعامة بدنة ، وفي حمار الوحش بقرة ، وما لا نظير له كالحمام والعصفور تجب القيمة كما قالا ، له قوله تعالى : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ) . والمثلية من حيث الصورة أولى ؛ لأن القيمة ليست مثلا للنعم . وعن جماعة من الصحابة إيجاب النظير من حيث الخلقة ، وعنده الخيار إلى الحكمين ، فإن حكما بالهدي يجب النظير ، وإن حكما بالطعام أو بالصيام فكما قالا ، لقوله تعالى : ( يحكم به ذوا عدل منكم هديا ) نصب مفعول يحكم ، وجوابه ما قلنا ، ولأن الكفارة رفع عطف على الجزاء ، وكذلك قوله : ( أو عدل ) رفع ، وإنما الحكمان يحكمان بالقيمة لأن الواجب لو كان النظير لما احتاج إلى تقويمها ، فعلم أن الحكمين إنما يحكمان بالقيمة ثم الخيار إليه رفقا به كما بينا .

[ ص: 226 ] وإن قتل ما لا يؤكل من السباع ففيه الجزاء لأنه صيد فيتناوله إطلاق النص ، ولا يتجاوز بقيمته شاة ؛ لأن السبع وإن كبر لا يتجاوز قيمة لحمه قيمة لحم شاة ؛ لأنه غير منتفع به شرعا .

قال : ( ومن جرح صيدا أو نتف شعره ، أو قطع عضوا منه ضمن ما نقصه ) اعتبارا للبعض بالكل .

( وإن نتف ريش طائر أو قطع قوائم صيد فعليه قيمته ) لأنه خرج به عن حيز الامتناع فقد فوت عليه الأمن فصار كما إذا قتله ، وكذلك كل فعل يخرج به عن حيز الامتناع .

( وإن كسر بيضته فعليه قيمتها ) لما روي أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قضى بذلك ، وكذا روي عن علي وابن عباس .

ولو خرج منها فرخ ميت فعليه قيمته حيا ؛ لأنه كان بعرضية الحياة وقد فوتها فتجب قيمته احتياطا .

وكذلك لو ضرب بطن ظبية فألقت جنينا ميتا فعليه قيمته لما بينا . وشجر الحرم لا يحل قطعه لمحرم ولا حلال . قال - عليه الصلاة والسلام - : " لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها " فصار كالصيد ، وشجر الحرم ما ينبت بنفسه ، أما إذا أنبته الناس أو كان من جنس ما ينبته الناس فلا بأس بقطعه وقلعه ؛ لأن الناس اعتادوا الزراعة والحصد من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا من غير نكير . وعن أبي يوسف : لا بأس برعيه ؛ لأن منع الدواب متعذر ، وجوابه الحديث ، ولأن القطع بالمشافر كالقطع بالمناجل .

قال : ( ومن قتل قملة أو جرادة تصدق بما شاء ) قال عمر - رضي الله عنه - : تمرة خير من جرادة ، ولأن القملة من التفث حتى لو قتل قملة وجدها على الأرض لا شيء عليه ، وكذلك القملتين والثلاث ، وإن كثر أطعم نصف صاع لكثرة الارتفاق . وعن أبي يوسف في القملة يتصدق بكف من طعام ، وعن محمد بكسرة من خبز .

[ ص: 227 ] قال : ( وإن ذبح المحرم صيدا فهو ميتة ) لأنه فعل حرام فلا يكون ذكاة .

( وله أن يأكل ما اصطاده حلال إذا لم يعنه ) لما مر من حديث أبي قتادة .

( وكل ما على المفرد فيه دم على القارن فيه دمان ) لأنه جناية على إحرامين .




الخدمات العلمية