الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                القاعدة الأولى : ليس الاجتهاد بذل الجهد كيف كان ، بل يشترط فيه معرفة الأدلة المنصوبة على الكعبة ، فمن اجتهد في غيرها فليس بمجتهد ، كما أن المجتهد في الأحكام الشرعية بغير أدلتها المنصوبة عليها ليس بمجتهد ، وأصول [ ص: 124 ] الأدلة على الكعبة ستة . العروض والأطوال مع الدائرة الهندسية أو غيرها من الأشكال الهندسية على ما بسط في علم المواقيت ، والقطب والكواكب ، والشمس والقمر والرياح وهي أضعفها ، كما أن أقواها العروض والأطوال ، ثم القطب ويدل على اعتبار هذه الأدلة قوله تعالى : ( وبالنجم هم يهتدون ) في سياق الامتنان وذلك يدل على المشروعية ، وقوله تعالى : ( لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ) . والهداية إنما تكون للمقاصد والصلاة من أهم المقاصد ، وقوله تعالى : ( والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ) وهذا كله تنبيه على وجوه تحصيل المصالح من الكواكب ، ومن أهم المصالح إقامة الصلاة على الوجه المشروع ، ولأن القاعدة أن كل ما أفضى إلى المطلوب فهو مطلوب وهذه الأمور مفضية إلى إقامة الصلوات المطلوبة فتكون مطلوبة .

                                                                                                                القاعدة الثانية : حيث قلنا بتقليد المحاريب فيشترط فيها أن لا تكون مختلفة ، ولا مطعونا عليها من أهل العلم ، فمهما فقد أحد الشرطين ، لا يجوز تقليدها إجماعا ، فإن الأصل في التكاليف العلم ; لقوله تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) وقد أقام الشرع الظن مقامه ; لتعذره في كثير من الصور ، وغلبة صدق الظنون ، وندرة كذبها ، والمصلحة الغالبة لا تترك للمفسدة النادرة ، ونفي الشك ملغى بالإجماع ومع الاختلاف أو الطعن ، من أهل العلم [ ص: 125 ] لا علم ولا ظن ، بل نقطع مع الاختلاف بالخطأ ونظنه مع الطعن ، وهذا هو شأن محاريب القرى بالديار المصرية ، فإنها مختلفة جدا ومطعون عليها جدا ، وقد صنف الزين الدمياطي وغيره من العلماء تصانيف فيها ، ونبه على كثرة فسادها واختلافها ، وليس بالديار المصرية بلد نقلد محاريبها المشهورة حيث قلنا بالتقليد إلا مصر والقاهرة والإسكندرية ، وبعض دمياط أو بعض محاريب قوص ، وأما المحلة ومنية بني خصيب والفيوم فإن جوامعها في غاية الفساد ; فإنها مستقبلة بلاد السودان ، وليس بينها وبين جهة الكعبة ملابسة .

                                                                                                                القاعدة الثالثة : في معرفة الاستدلال بالأدلة المتقدمة ، أما العروض والأطوال فلا يليق ذكرها هاهنا ; لطول أمرها بل نحيلها على كتبها الموضوعة لها ، وأما القطب فهو نقطة مقدرة ما بين الفرقدين والجدي ، وهو أقرب إلى الجدي ، والجدي والفرقدان مع نجوم صغار بينهما صورتها صورة سفينة أو سمكة ، وهي تدور أبدا على الدهر ليلا ونهارا مع بنات نعش ، فالجدي يلي النعش ، والفرقدان يليان البنات وهذا القطب هو وسط السماء ، فمن جعله بين عينيه فقد صار الجنوب بين كتفيه ومشرق الاعتدال على يمينه ومغرب الاعتدال على يساره ، وتنقسم له دائرة الأفق أربعة أرباع ، ويستعان على ذلك بمن هو عالم به ، فإذا عرفت القطب فهو يجعل بمصر وما قاربها خلف الكتف الأيسر ، لا بين الكتفين ولا قبالة صفحة الخد الأيسر بحيث يكون مطلع العقرب ومشرق الشتاء بين العينين ، وكلما صعدت في الديار المصرية ملت إلى المشرق ، وكلما انحدرت إلى الشمال ملت إلى الجنوب فأنت أبدا بين المشرق والجنوب على الوجه [ ص: 126 ] المحدود لك ، ولا يحصل التغير في أقل من مسيرة يومين شرقا أو غربا ، شمالا أو جنوبا ، وفي إفريقية من أرض المغرب يميلون إلى الشرق أكثر من مصر ، وأهل المغرب الداخل يزيدون على ذلك ويقربون الجدي من صفحة الخد الأيسر أكثر ، وفي الأندلس يبعدونه عن صفحة الخد ويقربون إلى الجنوب أكثر من مصر ، وأهل اليمن يجعلونه بين أعينهم ، وأهل العراق والموصل وبلاد الروم والصقالبة يجعلونه بين أكتافهم ، وأهل الشام يميلون عن ذلك إلى جهة المشرق يسيرا ، وبلاد العجم يجعلونه على جنب الكتف الأيمن لا بين الكتفين ولا على صفحة الخد ، وبلاد الهند والسند يجعلونه على صفحة الخد ويستقبلون وسط المغرب ، وأوائل بلاد التكرور والنوبة والبجة يجعلونه على صفحة الخد الأيسر ويستقبلون وسط المشرق ، وأواخر بلاد التكرور والزيلع والحبشة يقربونه من بين العينين من جهة الخد الأيسر ، وهذا بيان هذه الجهات من حيث الجملة فإن ذكرها على التفصيل لا يسعه هذا المكان ، وعلى المجتهد تحرير ذلك في مواضعه بالزيادة والنقصان بحسب القرب والبعد ، وأما الاستدلال بالشمس فطلوعها يعين المشرق والمغرب ، وكذلك غروبها وزوالها يعين الشمال والجنوب ; فإنها لا تزول أبدا إلا قبالة القطب فمستقبلها حينئذ بالديار المصرية والشامية يكون الجنوب أمامه والشمال خلفه ، والمشرق والمغرب عن يساره ويمينه فإذا انقسمت لك الجهات الأربع في بلدك وأنت تعلم الكعبة في أي جهة من جهات بلدك استقبلها ، كما تقول في الديار المصرية الكعبة منها ما بين الشرق والجنوب وهي أقرب إلى المشرق ، وأما الاستدلال بالقمر فأنت تعلم أن القمر لا يزال قوسا إلا في منتصف الشهر ، ففي أول الشهر يكون محدب القوس [ ص: 127 ] أبدا إلى جهة المغرب ، ومقعده إلى الشرق ، وفي النصف الأخير من الشهر يكون على العكس محدبه إلى المشرق ، ومقعده إلى المغرب ، فمتى نظرت إليه في أي وقت شئت بالليل أو بالنهار خرجت لك الجهات الأربع ، وفعلت فيه ما فعلته في الشمس ، وأما منتصف الشهر حيث لا تحديب ولا تقعير فإن كنت في أول الليل فاعلم أن الجهة القريبة منه هي المشرق والبعيدة المغرب فتخرج لك الجهات الأربع فتتعين لك جهة القبلة وإن كنت في آخر الليل فالجهة القريبة منه المغرب والبعيدة المشرق فتخرج لك الجهات الأربع ، فاصنع حينئذ ما تصنعه مع الشمس ، وأما الرياح فاعلم أن العرب كانت تنصب بيوتها إلى جهة المشرق ، والبيت إنما يمال إليه من جهة بابه ، والميل الصبا ومنه سميت الصابئة صبئة ; لأنها مالت إلى عبادة النجوم فسميت الريح الآتية من وسط المشرق صبا ، ولما كان باب البيت يتنزل منه منزلة الوجه من الإنسان كان ظهر البيت دبره ، فالريح الغربية تسمى دبورا ، ومنه قوله عليه السلام : نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور . ويتعين حينئذ أن تكون جهة القطب شماله وضدها يمينه ، فسميت الريح من جهة القطب شمالا والبلاد التي في تلك الجهة من الحجاز شاما ، وهي التي تسمى بالديار المصرية بحرية ; لكون البحر الملح في تلك الجهة في الديار المصرية ، وعكسها تسمى جنوبية ; لكونها من جنب البيت ، والبلاد التي في تلك الجهة من الحجاز تسمى يمنا وتسمى بمصر مريسية ; لأجل بلد في هذه الجهة تسمى مريسية ، [ ص: 128 ] وكل ريح بين ريحين من هذه تسمى نكباء ; لتنكيبها عن كل واحد منهما ، فالرياح حينئذ ثمانية : أربعة أصول ، وأربعة نواكب ، فإذا علمت ريحا من هذه الرياح تعينت لك الجهات الأربع ، وفعلت ما تقدم في الشمس فهذه أصول الأدلة وفروعها كثيرة من الأنهار كالنيل ، اعلم أنه يجري من الجنوب إلى الشمال فتخرج به الجهات الأربع ، وكذلك غيره من الأنهار والجبال والبلاد وغير ذلك فهذه الأدلة تتعين على الفقيه أن يعلمها أو بعضها ; ليخرج من عهدة ذلك الواجب في الكعبة .

                                                                                                                تنبيه :

                                                                                                                إذا قلنا إن كل مجتهد مصيب في الأحكام الشرعية لا يمكن القول به ههنا ; لأن أدلة الأحكام يعارض بعضها بعضا ، وفيها العام والمخصص ، والمطلق والمقيد ، والناسخ والمنسوخ فقد يطلع أحد المجتهدين على العام دون المخصص ، ويطلع الآخر على المخصص فيختلفان ، وكذلك القول في سائر الأقسام ، وأما أدلة القبلة فلا تعارض بينها فمن علم جملتها كمن علم واحدا منها في الهداية فلا يقع الخلاف فيها إلا بين جاهل وعالم ، ولا يقع بين عالمين أبدا ; لأنها أمور محسوسة فالمصيب فيها واحد ليس إلا .

                                                                                                                القاعدة الرابعة : إن أرباب المذاهب ينقلون الخلاف في الواجب في الكعبة في حق الغائب عنها هل هو العين أو الجهة ؟ وهو مشكل ، فإن المعاين لا خلاف أن الواجب عليه العين بلا خلاف هاهنا ، والغائب عنها إما واحد ، وقد اتفقت الأمة على أنه يجب عليه أن يتبع جهة يغلب على ظنه أن عين الكعبة [ ص: 129 ] وراءها إما بالاجتهاد أو بالتقليد ، ولم يقل أحد بأنه يجوز له العدول عن تلك الجهة ، ولأن الله تعالى كلفه برؤية العين مع الغيبة فلا خلاف هاهنا أيضا ، وأما الكثير فقد اتفقوا على وجوب الصلاة في المدينتين المتقاربتين إلى جهة واحدة ، ومن المعلوم أن الكعبة لا يكفي طولها بذلك وأن بعضهم خارج عنها بالضرورة والصف الطويل بمنزلة المدينتين ، وقد انعقد الإجماع هاهنا على الاكتفاء بالجهة التي يغلب على الظن أن الكعبة وراءها ، ولم يقل أحد أن صلاة بعضهم باطلة ولا سبيل إلى القول بذلك إذ ليس البعض أولى من البعض فيبقى محل الخلاف غير معلوم .

                                                                                                                والجواب : أن الأحكام على قسمين : مقاصد ووسائل ، فالمقاصد كالحج ، والسفر إليه وسيلة ، وإعزاز الدين ونصر الكلمة مقصد ، والجهاد وسيلة ونحو ذلك من الواجبات والمحرمات ، والمندوبات والمكروهات والمباحات ، فتحريم الزنا مقصد ; لاشتماله على مفسدة اختلاط الأنساب ، وتحريم الخلوة والنظر وسيلة ، وصلاة العيدين مقصد مندوب والمشي إليها وسيلة ، ورطانة الأعاجم مكروهة ومخالطتهم وسيلة إليه ، وأكل الطيبات مقصد مباح والاكتساب له وسيلة مباحة ، وحكم كل وسيلة حكم مقصدها في اقتضاء الفعل أو الترك ، وإن كانت أخفض منه في ذلك الباب ، إذا تقرر هذا فالاجتهاد قد يكون في تعيين المقاصد كتميز الأخت من الأجنبية ، وقد تقع في الوسائل كالاجتهاد في أوصاف المياه ومقاديرها عند من يعتبر المقدار ، والمقصد هو الطهورية .

                                                                                                                والقاعدة : أنه مهما تبين عدم إفضاء الوسيلة إلى المقصد بطل اعتبارها كما إذا تيقنا أن الماء الذي اجتهدنا في أوصافه ماء ورد منقطع ، فإنه يجب إعادة [ ص: 130 ] الصلاة بطهارة أخرى ، فعين الكعبة مع الجهات كطهورية الماء مع الأوصاف ، فاختلف العلماء في الواجب وجوب المقاصد في الكعبة هل هو العين وتكون الجهات وسائل ؟ فإذا تبين خطؤها بطلت الصلاة كالمياه ، وهو مشهور مذهب الشافعي وهو الأصل ، فإن المقصود الذي دل النص عليه إنما هو البيت أو الواجب وجوب المقاصد هو الجهة ولا عبرة بالعين ألبتة ; لأن العين لما استحال تيقنها عادة ، أسقط الشرع اعتبارها ، وأقام مظنتها التي هي الجهة مقامها كإقامة السفر ثمانية وأربعين ميلا مقام المشقة ، وإقامة صيغ العقود مقام الرضا ، والرضا هو الأصل ; لقوله عليه السلام : لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه منه . لكن لما تعذرت معرفته ; لخفائه أقيمت مظنته مقامه وسقط اعتباره ، حتى لو رضي بانتقال الملك ولم يصدر منه قول ولا فعل لم ينتفل الملك ، فكذلك عين الكعبة سقط اعتبارها ; لخفائها وأقيمت الجهة مقامها فصارت هي الواجبة وجوب المقاصد ، وهذا هو المشهور عندنا ومذهب أبي حنيفة وبهذا التقرير يظهر الفرق بين وسيلة الطهورية ، ووسيلة الكعبة فإن الوصول إلى الطهورية ممكن ، ولو في البحر بخلاف عين الكعبة فظهر أن الجهة واجبة إجماعا ، إما وجوب المقاصد أو وجوب الوسائل ، والعين واجبة وجوب المقاصد على أحد القولين ، وليست واجبة على القول الآخر مطلقا لا مقصد ولا وسيلة ، ويظهر حينئذ إمكان الخلاف في المسألة ويتخرج وجوب الإعادة عليه في حق من أخطأ ، فإن قلنا الجهة هي المقصد وقد حصلت فلا إعادة ، وإن قلنا أنها وسيلة والوسيلة إذا لم تفض إلى المقصد سقط اعتبارها ، كالأوصاف مع المياه فتجب الإعادة لتحصيل [ ص: 131 ] المقصد الذي لم يحصل بعد .

                                                                                                                القاعدة الخامسة : هي أن جهة الكعبة تكون شرقا في قطر ، وغربا في قطر ، وكل نقطة تفرض بين المشرق والمغرب من جهة الشمال أو الجنوب ، فهي جهة الكعبة لقوم وعلى ثلاثمائة وستين نقطة ، وتحرير ذلك يحصل بالطرق المتقدمة من الاستدلال ، ولا يجب اتباع الإسطرلاب ولا الطرق الهندسية بل إن حصلت فهي حسن ; لأنها مؤكدة للحق لا مبطلة له ، وعلى هذه القاعدة يتعين أن يكون قوله عليه السلام : ما بين المشرق والمغرب قبلة . رواه الترمذي ، وذكره مالك عن عمر في الموطأ خاصا ببعض الأقطار فإن اتباع ظاهره يوجب كون الجنوب والشمال قبلة لكل أحد ، وهو خلاف الإجماع وبأن المشرق والمغرب ليسا قبلة لأحد ، وهو خلاف الإجماع بل هو محمول على المدينة والشام ونحوهما في جهة الجنوب ، وعلى اليمن ونحوه في جهة الشمال فإن هذه الأقطار البيت منهم في هاتين الجهتين ، وأما من عداهم فلا يراد بالحديث ، ولذلك قال مالك - رحمة الله عليه - في المجموعة عن عمر رضي الله عنه : ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه قبل البيت ، وعليه الأمر عندنا يعني بالمدينة فاشترط في استعمال الحديث مصادفة جهة الكعبة . ومثل هذا الحديث قوله عليه السلام : لا تستقبلوا القبلة لبول أو غائط ، ولكن شرقوا أو غربوا . محمول على ما حمل الحديث الأول عليه ، فإن التشريق والتغريب قد يكون جهة الكعبة فينعكس الحكم .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية