الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          [ ص: 151 ] فصل ومتى افترق المتصارفان قبل التقابض ، أو افترقا عن مجلس السلم قبل قبض رأس ماله بطل العقد ، وإن قبض البعض ، ثم افترقا بطل في الجميع في أحد الوجهين ، وفي الآخر يبطل فيما لم يقبض ، وإن تقابضا ثم افترقا فوجد أحدهما ما قبضه رديئا فرده بطل العقد في إحدى الروايتين ، والأخرى إن قبض عوضه في مجلس الرد لم يبطل ، وإن رد بعضه ، وقلنا : يبطل في المردود فهل يبطل في غيره ؛ على وجهين ، والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في العقد في أظهر الروايتين فلا يجوز إبدالها ، وإن وجدها معيبة خير بين الإمساك ، والفسخ ، ويتخرج أن يمسك ويطالب بالأرش ، وإن خرجت مغصوبة بطل العقد ، والأخرى : لا تتعين ، فلا يثبت فيها ذلك .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          فصل

                                                                                                                          ( ومتى افترق المتصارفان قبل التقابض ، أو افترقا عن مجلس السلم قبل قبض رأس ماله بطل العقد ) تقدم أن الصرف بيع الأثمان بعضها ببعض ، والقبض شرط لصحة العقد ، نص عليه ، ذكره الجماعة وحكاه ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه من أهل العلم ولقوله عليه السلام : وبيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد . والمجلس هنا كمجلس الخيار في البيع ، فلا يضر طوله مع تلازمهما ، فلو مشيا إلى منزل أحدهما مصطحبين صح ، وقبض الوكيل كقبض موكله بشرط قبضه قبل مفارقة موكله المجلس ، كتعلقه بعينه ، فلو فارق المجلس فسد الصرف ، وإن قبض الوكيل في المجلس ، فلو مات أحدهما قبل القبض فسد لعدم تمام العقد وقول المؤلف بطل العقد يوهم وجود عقد ، ثم بطلانه ، وليس كذلك بل القبض فيه بمنزلة القبول لا يتم العقد إلا به ، ولهذا قال الخرقي : فلا بيع بينهما ، وأما قبض رأس مال السلم فسيأتي في محله ( وإن قبض البعض ) في المجلس ( ثم افترقا بطل في الجميع في أحد الوجهين ، وفي الآخر يبطل فيما لم يقبض ) فقط ، وهو المذهب لا صرف بينهما فيما لم يقبض لفوات شرطه ، وما قبض ففيه وجهان مبنيان على تفريق الصفقة ، والمذهب هنا البطلان ، صرح به في " الوجيز " ، فلو صارف رجلا دينارا بعشرة دراهم ، وليس معه إلا خمسة لم يجز تفرقهما قبل قبض العشرة ، فإن قبض الخمسة ، ثم افترقا ، فعلى ما سبق ، فإن أراد صحة العقد ، فسخا الصرف في النصف الذي ليس معه عوضه ، أو يفسخان العقد كله [ ص: 152 ] ثم يشتري منه نصف الدينار بخمسة ويدفعها إليه ، ثم يأخذ الدينار كله فيكون نصفه له ، والباقي أمانة في يده ، ثم يفترقان .

                                                                                                                          فرع : إذا تخايرا قبل القبض في المجلس لم يبطل العقد ؛ لأنهما لم يفترقا قبل القبض ويحتمل أن يبطل إن قيل بلزوم العقد ؛ لأن العقد لم يبق فيه خيار قبل القبض كالفرقة ، وجوابه أن الشرط التقابض في المجلس ، وقد وجد ( وإن تقابضا ، ثم افترقا فوجد أحدهما ما قبضه رديئا فرده بطل العقد في إحدى الروايتين ) ، اختاره الخرقي وجمع ؛ لأن قبض مال الصرف في المجلس شرط ، ولم يوجد لتفرقهما قبل قبض المعقود عليه ، وظاهر المتن أنه يشمل ما إذا كان العيب من جنس المعقود عليه كالسواد في الفضة ، والوضوح في الذهب ، وما إذا كان من غير جنسه كالرصاص في الفضة ونحوه ، والمذهب فيه البطلان وحمله في " الشرح " على الأخير ، وشرط في " المغني " كون العيب من الجنس قال ابن المنجا : يجب حمل لفظه هنا على ذلك إذا قلنا قبض البدل يقوم مقام قبضه في مجلس الرد ، وإن قلنا لا يقوم ، فلا حاجة إلى التفصيل ؛ لأن البطلان مشترك بين المعنيين ( والأخرى : إن قبض عوضه في مجلس الرد لم يبطل ) ؛ لأن قبض عوضه في مجلس الرد يقوم مقام قبضه في مجلس العقد ( وإن رد بعضه وقلنا : يبطل في المردود ، فهل يبطل في غيره ؛ على وجهين ) بناء على تفريق الصفقة ، ثم اعلم أن الصرف يقع على ضربين أحدهما : أن يبيع عينا بعين ، ولو بوزن متقدم ، أو خبر صاحبه . الثاني : أن يقع على موصوف في الذمة كقوله : بعتك دينارا مصريا بعشرة دراهم ناصرية ، وقد يكون أحد العوضين معينا دون الآخر وكل ذلك جائز أما الأول إذا تقابضا ، ثم وجد أحدهما عيبا فيما قبضه فينقسم إلى قسمين [ ص: 153 ] أحدهما : أن يكون العيب من غير الجنس فالصرف فيه باطل بناء على أن المعقود يتعين بالتعيين ، وهذا هو المجزوم به عند الأصحاب ؛ لأن البدل متعذر لتعلق البيع بالعين قال في " المغني " كقوله : بعتك هذا البغل ، فإذا هو حمار ، وعنه : يصح وله رده وأخذ البدل ، وعنه : يقع لازما ، فلا رد ، ولا بدل تغليبا للإشارة ، وعلى المذهب إن ظهر البعض معيبا بطل العقد فيه وهل يبطل في غيره ؛ فيه قولا تفريق الصفقة .

                                                                                                                          الثاني : أن يكون من جنسه فنقل ابن الحكم وجعفر بطلان العقد ، وجزم به في الواضح ، والأشهر أنه يثبت له الخيار بين الرد ، والإمساك قال الزركشي : بغير خلاف نعلمه ، وفيه شيء ، فإن اختار الرد بطل العقد ، ولم يكن له أخذ البدل ، كما لو كان المبيع عرضا ، لأن المبيع تعلق بعينه فيفوت بفواته ، وإن اختار الإمساك فله ذلك وله أخذ الأرش ، كما نقله الشيخان وصاحب " التلخيص " ؛ لأن قاعدة المذهب أنه يجوز أخذ الأرش مع القدرة على الرد ومنع أبو الخطاب من أخذ الأرش مطلقا ؛ لأنه زيادة على ما وقع عليه العقد ، سنده امتناع أخذ الأرش مع القدرة على الرد على رواية ، فعلى هذا المذهب أنه لا يجوز أخذ الأرش من الجنس الواحد مطلقا لفوات المماثلة المشترطة وخرج القاضي وجها بالجواز في المجلس نظرا إلى أن الزيادة طرأت بعد العقد ، وأبو الخطاب صرح بالجواز مطلقا فيدخل فيه الجنس ، والجنسان ، وفي المجلس وبعده وحكاه ابن عقيل قولا في صورة تلف أحد العوضين ويجوز في الجنسين مطلقا أعني في المجلس وبعده على ظاهر إطلاق الأكثر ؛ لأن الأرش عوض عن الجزء الفائت في الثمن ، وفي " المغني " ، و " الفروع " له أخذ أرش العيب في المجلس ، وكذا بعده إن جعلا أرشه من غير جنس الثمن [ ص: 154 ] لأنه لا يعتبر قبضه فيه كبيع بر بشعير فيجد أحدهما عيبا فيأخذ أرشه درهما بعد التفرق . ونقل جماعة : له رده وبدله ، ولم يفرق في العيب . الثاني : أن يكون على غير عينه ، وهو الصرف في الذمة ، فيصح ؛ لأن المجلس كحالة العقد ، فإذا وجد أحدهما بما قبضه عيبا فله بدله وله الإمساك إذ قصاراه الرضى بدون حقه وله أخذ الأرش في الجنسين لا الجنس على المذهب ، فإن تفرقا ، والعيب من جنسه ، وذكر جماعة : أو غيره ، فعنه له بدله وأخذ الأرش بعد التفرق ، وعنه : ليس له بدله فيفسخ أو يمسك الجميع ، ولا أرش بعد الفرقة ويعتبر قبض البدل في مجلس الرد ، وذكر بعضهم إن وجد بعد التفرق ، واختار الرد فهل يبطل العقد برده ؛ اختاره أبو بكر لوجود التفرق قبل القبض ، أو لا يبطل وله البدل في مجلس الرد ، وإن تفرقا قبله بطل العقد في اختيار الخرقي ، والخلال ، والقاضي وأصحابه ؛ لأن القبض وقع صحيحا ، إذ بدله يقوم مقامه ، فيه روايتان ، وفيه ثالثة أن البيع يقع لازما ، وهو بعيد ؛ لأنه يلزم منه إلزام العاقد بما لم يلتزمه ، فعلى الأولى إن وجد البعض رديئا فرده بطل فيه ، وفي الباقي قولا تفريق الصفقة ، وعلى الثانية : له بدل المردود في مجلس الرد وله الإمساك ، لكن إن طلب معه أخذ الأرش ففي " المغني " ، و " الشرح " له ذلك على الثانية لا الأولى ، وأما على المحقق فله ذلك في الجنسين على الروايتين ( والدراهم ، والدنانير تتعين بالتعيين في العقد في أظهر الروايتين ) هذا هو المعمول به عند الأصحاب ؛ لأن ذلك عوض مشار إليه في العقد ، فوجب أن يتعين كسائر الأعواض ، ولأنه أحد العوضين فتعين بالتعيين كالآخر ، ولأن ما تعين في الغصب والوديعة تعين بالعقد كالعرض ، ومعنى تعيينه [ ص: 155 ] في الغصب أنه إذا طولب به لزمه تسليمه ، ولا يجوز العدول عنه ، وفي بعض روايات حديث عبادة " عينا بعين " فيستدل به ، إذ لو كان الذهب والفضة في الذمة لم يكن عينا بعين ؛ لأنه إنما يكون بهذا الوصف إذا ملكت عين كل واحد منهما ، وفيه شيء ، إذ يلزم منه أن لا يباع الذهب بمثله إلا عينا بعين ، وقد حكي الإجماع على خلافه ( فلا يجوز إبدالها ) ؛ لأن العقد واقع على عينها .

                                                                                                                          ( وإن وجدها معيبة خير بين الإمساك ، والفسخ ) كالعوض الآخر ، وظاهره أنه لا أرش مع الإمساك ، وهو كذلك ( ويتخرج أن يمسك ويطالب بالأرش ) ؛ لأنه مبيع أشبه سائر المبيعات هذا إذا كان العيب من جنس النقود ، فإن كان من غير جنسها بطل العقد إذا كان في جميعها ، وإن كان في بعضها بطل فيه ، وفي الباقي قولا تفريق الصفقة ، ذكره في " الشرح " ، وغيره ، وفي " المغني " لا أرش له مع الإمساك إذا وقع العقد على مثله كالدراهم بمثلها ؛ لأن أخذ الأرش يفضي إلى التفاضل المحرم ، وخرج القاضي وجها بجوازه في المجلس ؛ لأنها زيادة طرأت بعد العقد ورده المؤلف ، وإن وقع مثله كالدراهم والدنانير فله أخذ الأرش في المجلس ، ولم يحك فيه خلافا وعلله بأن أكثر ما فيه حصول زيادة من أحد الطرفين ، ولا يمنع ذلك في الجنسين ، وإن كان بعد التفرق لم يجز لحصول الفرقة قبل القبض المعتبر قال ابن المنجا : فيجب حمل كلامه هنا على ما قاله في " المغني " ليطابق ، وفيه شيء .

                                                                                                                          ( وإن خرجت مغصوبة بطل العقد ) كالمبيع إذا ظهر مستحقا وإذا تلف قبل القبض تلف من مال البائع بناء على المذهب في أن المتعين لا يفتقر إلى قبض .

                                                                                                                          [ ص: 156 ] ( والأخرى لا تتعين ) وهي ظاهر نقل أبي داود وتأولها القاضي ، وأبى ذلك الجمهور ؛ لأنه يجوز إطلاقها في العقد ، ولا غرض في أعيانها ، وإنما الغرض في مقدارها ، فلم يتعين به كالمكيال والميزان ، وكما لو استأجر أرضا ليزرعها حنطة فله زرع ما هو مثلها يؤكده قول الفراء في قوله تعالى : وشروه بثمن بخس الآية أن الثمن ما يثبت في الذمة ومن قال بالتعيين لم يجعلها تثبت في الذمة وهي ثمن قطعا ( فلا يثبت فيها ذلك ) أي : فله إبدالها مع عيب وغصب ، وإن تلفت قبل قبضها فهي من مال المشتري .

                                                                                                                          مسائل : منها إذا نذر صدقة بدرهم بعينه لم يتعين ، ذكره القاضي وحفيده ، وفي " الانتصار " يتعين ، فلو تصدق به بلا أمره لم يضمنه ويضمنه على الأول ، ومنها : يجوز اقتضاء أحد النقدين من الآخر على الأصح إن حضر أحدهما والآخر في الذمة مستقر بسعر يومه ، نص عليه لخبر ابن عمر في بيع الإبل بالبقيع ، ويكون صرفا بعين وذمة ومنع منه ابن عباس وجمع ، وهل يشترط حلوله ؛ فيها وجهان ، وإن كانا في ذمتيهما فاصطرفا ، فنصه لا يصح ، واختار الشيخ تقي الدين جوازه .

                                                                                                                          ومنها : إذا كان له على آخر دنانير فقضاه دراهم شيئا فشيئا ، فإن كان يعطيه كل درهم بحسابه من الدينار ، صح ، نص عليه ، وإن لم يفعل ذلك ، ثم تحاسبا بعد فصارفه بها وقت المحاسبة لم يجز ، نص عليه ؛ لأنه يصير بيع دين بدين ، وإن قبض أحدهما من الآخر ماله عليه ، ثم صارفه بعين وذمة ، صح ، فلو أعطاه الدراهم شيئا بعد شيء ، ولم يقضه إياها وقت دفعها إليه ، ثم أحضرها [ ص: 157 ] وقوماها ، فإنه يحتسب ذلك منها يوم القضاء لا يوم دفعها إليه ؛ لأنها وديعة في يده ، فإن تلفت ، أو نقصت كان من ضمان مالكها على المشهور .

                                                                                                                          ومنها : لو كان له عند صيرفي دنانير فأخذ منه دراهم إدرارا ليكون هذه بهذه لم يجز ، فإن أرادا المصارفة أحضر أحدهما ، واصطرفا بعين وذمة .

                                                                                                                          ومنها : المقبوض بعقد فاسد كالمقبوض في عقد صحيح فيما يرجع إلى الضمان وعدمه .




                                                                                                                          الخدمات العلمية