الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فصل

              وإذا كانت العوائد معتبرة شرعا ; فلا يقدح في اعتبارها انخراقها ما بقيت عادة على الجملة ، وإنما ينظر في انخراقها .

              ومعنى انخراقها أنها تزول بالنسبة إلى جزئي ; فيخلفها في الموضع حالة ; إما من حالات الأعذار المعتادة في الناس ، أو من غير ذلك ، فإن كانت منخرقة بعذر ; فالموضع للرخصة ، وإن كانت من غير ذلك ; فإما إلى عادة أخرى دائمة بحسب الوضع العادي ، كما في البائل من جرح صار معتادا ; فهذا راجع إلى حكم العادة الأولى لا إلى حكم الرخص كما تقدم ، وإما إلى غير عادة ، أو [ ص: 496 ] إلى عادة لا تخرم العادة الأولى ، فإن انخرقت إلى عادة أخرى لا تخرم العادة الأولى ، فظاهر أيضا اعتبارها لكن على وجه راجع إلى باب الترخص ، كالمرض المعتاد ، والسفر المعتاد بالنسبة إلى جمع الصلاتين والفطر والقصر ونحو ذلك ، وإن انخرقت إلى غير معتاد ; فهل يكون لها حكمها في نفسها ، أو تجري عليها أحكام العوائد التي تناسبها ؟

              ولا بد من تمثيلها أولا ، ثم النظر في مجاري تلك الأحكام في الخوارق .

              فمن ذلك توقف عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - عن إكراه من منع الزكاة ، وقوله لمن كتب له بذلك : " دعوه " .

              وقصة ربعي بن حراش حين طلب الحجاج ابنه ليقتله ; فسأله الحجاج عن ابنه فأخبره ، والأب عارف بما يراد من ابنه .

              [ ص: 497 ] وقصة أبي حمزة الخراساني حين وقع في البئر ثم سد رأسها عليه ولم يستغث .

              وحديث أبي يزيد مع خديمه لما حضرهما شقيق البلخي وأبو تراب النخشبي ; فقالا للخديم : كل معنا . فقال : أنا صائم . فقال أبو تراب : كل ولك أجر صوم شهر ، فأبى . فقال شقيق : كل ولك أجر صوم سنة ، فأبى . فقال أبو يزيد : دعوا من سقط من عين الله . فأخذ ذلك الشاب في السرقة بعد سنة ، [ ص: 498 ] وقطعت يده .

              ومنه دخول البرية بلا زاد ، ودخول الأرض المسبعة ، وكلاهما من الإلقاء باليد إلى التهلكة .

              فالذي يقال في هذا الموضع بعد العلم بأن ما خالف الشريعة غير صحيح أن هذه الأمور لا ينبغي حملها على المخالفة أصلا مع ثبوت دين أصحابها ، وورعهم وفضلهم وصلاحهم بناء على الأخذ بتحسين الظن في أمثالهم ، كما أنا مؤاخذون بذلك في سلفنا الصالح من الصحابة - رضي الله عنهم - وغيرهم ممن سلك في التقوى والفضل سبيلهم ، وإنما ينظر فيها بناء على أنها جارية على ما يسوغ شرعا .

              وعند ذلك ; فلا يخلو ما بنوا عليه أن يكون غريبا من جنس العادي ، أو لا يكون من جنسه .

              فإن كان الأول ; لحق بجنس أحكام العادات .

              [ ص: 499 ] مثاله الأمر بالإفطار ; فإنه يمكن أن يكون مبنيا على رأي من يرى المتطوع أمير نفسه ، وهم الأكثر ; فتصير إباية التلميذ عن الإجابة عنادا واتباعا للهوى ، ومثل هذا مخوف العاقبة ، لا سيما بالنسبة إلى موافقة من شهر فضله وولايته ، وكذلك أمر عمر بترك مانع الزكاة ، لعله كان نوعا من الاجتهاد ; إذ عامله معاملة المغفلين المطرحين في قواعد الدين ; ليزدجر بنفسه وينتهي عما هم به ، وكذلك وقع ; فإنه راجع نفسه وأدى الزكاة الواجبة عليه لا أنه أراد تركه جملة ، بل ليزجره بذلك أو يختبر حاله ، حتى إذا أصر على الامتناع أقام عليه ما يقام على الممتنعين .

              ومثل ذلك قصة ربعي بن حراش فإنه حكي عنه أنه لم يكذب قط ; فلذلك سأله الحجاج عن ابنه ، والصدق من عزائم العلم ، وإنما جواز الكذب رخصة يجوز أن لا يعمل بمقتضاها ، بل هو أعظم أجرا ; كما في النطق بكلمة الكفر وهي رأس الكذب ، وقد قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [ التوبة : 119 ] بعدما أخبر به من قصة الثلاثة الذين خلفوا ; فمدحهم الله بالتزام الصدق في موطن هو مظنة للرخصة ، ولكن أحمدوا أمرهم في طريق الصدق بناء على أن الأمن في طريق المخافة مرجو ؟ وقد قيل : " عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك ; فإنه ينفعك ، ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك ; فإنه يضرك " ، وهو أصل صحيح شرعي .

              ومثله قصة أبي حمزة من باب الأخذ بعزائم العلم ; فإنه عقد على نفسه أن لا يعتمد على غير الله ; فلم يترخص ، وهو أصل صحيح ، ودل على [ ص: 500 ] خصوص مسألته قوله تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق : 3 ] ، ووكالة الله أعظم من وكالة غيره ، وقد قال هود عليه الصلاة والسلام : فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني إني توكلت على الله ربي وربكم [ هود : 55 ] الآية ، ولما عقد أبو حمزة عقدا طلب بالوفاء ; لقوله تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم [ النحل : 91 ] .

              وأيضا ; فإن بعض الأئمة نقل عنه أنه سمع أن أناسا بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يسألوا أحدا شيئا ; فكان أحدهم إذا وقع سوطه لا يسأل أحدا رفعه إليه ; فقال أبو حمزة : رب ! إن هؤلاء عاهدوا نبيك إذا رأوه ، وأنا أعاهدك أن لا أسأل أحدا شيئا أبدا . قال : فخرج حاجا من الشام يريد مكة . . . إلى آخر الحكاية .

              وهذا أيضا من قبيل الأخذ بعزائم العلم ; إذ عقد على نفسه مثل ما عقد من هو أفضل منه ; فليس بجار على غير الأصل الشرعي ، ولذلك لما حكى ابن العربي الحكاية قال : " فهذا رجل عاهد الله ، فوجد الوفاء على التمام والكمال ; فبه فاقتدوا إن شاء الله تهتدوا " .

              وكذلك دخول الأرض المسبعة ودخول البرية بلا زاد ; فقد تبين في كتاب الأحكام أن من الناس من يكون وجود الأسباب وعدمها عندهم سواء ; فإن الله هو مسبب الأسباب وخالق مسبباتها ; فمن كان هذا حاله ; فالأسباب عنده [ ص: 501 ] كعدمها ، فلم يكن له مخافة من مخوف مخلوق ، [ ولا رجاء في مرجو مخلوق ] ; إذ لا مخوف ولا مرجو إلا الله ; فليس هذا إلقاء باليد إلى التهلكة ، وإنما كان يكون كذلك لو حصل في اعتقاده أنه إن لم يتزود هلك ، وإن قارب السبع هلك ، وأما إذا لم يحصل ذلك ; فلا ، على أنه قد شرط الغزالي في دخول البرية بلا زاد اعتياد الصبر والاقتيات بالنبات ، وكل هذا راجع إلى حكم عادي .

              ولعلك تجد مخرجا في كل ما يظهر على أيدي الأولياء الذي ثبتت ولايتهم ، بحيث يرجع إلى الأحكام العادية ، بل لا تجده إن شاء الله إلا كذلك .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية