الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 406 ] المسألة الخامسة

              الناظر في المسائل الشرعية إما ناظر في قواعدها الأصلية ، أو في جزئياتها الفرعية ، وعلى كلا الوجهين فهو إما مجتهد أو مناظر ، فأما المجتهد الناظر لنفسه ، فما أداه إليه اجتهاده فهو الحكم في حقه ، إلا أن الأصول والقواعد إنما ثبتت بالقطعيات ، ضرورية كانت أو نظرية ، عقلية أو سمعية ، وأما الفروع ، فيكفي فيها مجرد الظن على شرطه المعلوم في موضعه ، فما أوصله إليه الدليل فهو الحكم في حقه أيضا ، ولا يفتقر إلى مناظرة ؛ لأن نظره في مطلبه إما نظر في جزئي ، وهو ثان عن نظره في الكلي الذي ينبني عليه ، وإما نظر في كلي ابتداء ، والنظر في الكليات ثان عن الاستقراء ، وهو محتاج إلى تأمل واستبصار وفسحة زمان يسع ذلك .

              وهكذا إن كان عقليا ففرض المناظرة هنا لا يفيد ؛ لأن المجتهد قبل الوصول متطلب من الأدلة الحاضرة عنده ، فلا يحتاج إلى غيره فيها ، وبعد الوصول هو على بينة من مطلبه في نفسه ، فالمناظرة عليه بعد ذلك زيادة .

              وأيضا ، فالمجتهد أمين على نفسه ، فإذا كان مقبول القول قبله المقلد ، ووكله المجتهد الآخر إلى أمانته ؛ إذ هو عنده مجتهد مقبول القول ، فلا يفتقر إذا اتضح له مسلك المسألة إلى مناظرة .

              [ ص: 407 ] وهنا أمثلة كثيرة ، كمشاورة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السعدين في مصالحة الأحزاب على نصف تمرالمدينة ، فلما تبين له من أمرهما عزيمة المصابرة والقتال ، لم يبغ به بدلا ، ولم يستشر غيرهما ، وهكذا مشاورته وعرضه الأمر في شأن عائشة ، فلما أنزل الله الحكم ، لم يلق على أحد بعد وضوح القضية ، ولما منعت العرب الزكاة عزم أبو بكر على قتالهم ، فكلمه عمر في ذلك ، فلم [ ص: 408 ] يلتفت إلى وجه المصلحة في ترك القتال ؛ إذ وجد النص الشرعي المقتضي لخلافه ، وسألوه في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة فأبى لصحة الدليل عنده بمنع رد ما أنفذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

              وإذا تقرر وجود هذا في الشريعة وأهلها لم يحتج بعد ذلك إلى مناظرة ولا إلى مراجعة ، إلا من باب الاحتياط ، وإذا فرض محتاطا فذلك إنما يقع إذا بنى عليه بعض التردد فيما هو ناظر فيه ، وعند ذلك يلزمه أحد أمرين :

              إما السكوت اقتصارا على بحث نفسه إلى التبين ؛ إذ لا تكليف عليه قبل بيان الطريق .

              وإما الاستعانة بمن يثق به ، وهو المناظر المستعين ، فلا يخلو أن يكون [ ص: 409 ] موافقا له في الكليات التي يرجع إليها ما تناظرا فيه أو لا .

              فإن كان موافقا له صح إسناده إليه واستعانته به ؛ لأنه إنما يبقى له تحقيق مناط المسألة المناظر فيها ، والأمر سهل فيها ، فإن اتفقا فحسن ، وإلا فلا حرج ؛ لأن الأمر في ذلك راجع إلى أمر ظني مجتهد فيه ، ولا مفسدة في وقوع الخلاف هنا حسبما تبين في موضعه .

              وأمثلة هذا الأصل كثيرة ، يدخل فيها أسئلة الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسائل المشكلة عليهم ، كما في سؤالهم عند نزول قوله : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ الأنعام : 82 ] .

              وعند نزول قوله : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية [ البقرة : 284 ] .

              وسؤال ابن أم مكتوم حين نزل : لا يستوي القاعدون من المؤمنين الآية [ النساء : 95 ] حتى نزل : غير أولي الضرر [ النساء : 95 ] .

              وسؤال عائشة عند قوله - عليه الصلاة والسلام - : من نوقش الحساب [ ص: 410 ] عذب واستشكالها مع الحديث قول الله تعالى : فسوف يحاسب حسابا يسيرا [ الانشقاق : 8 ] .

              وأشباه ذلك .

              وإنما قلنا : إن هذا الجنس من السؤالات داخل في قسم المناظر المستعين ؛ لأنهم إنما سألوا بعد ما نظروا في الأدلة ، فلما نظروا أشكل عليهم الأمر ، بخلاف السائل عن المحكم ابتداء ، فإن هذا من قبيل المتعلمين ، فلا يحتاج إلى غير تقرير الحكم ، ولا عليك من إطلاق لفظ المناظر ، فإنه مجرد اصطلاح لا ينبني عليه حكم ، كما أنه يدخل تحت هذا الأصل ما إذا أجرى الخصم المحتج نفسه مجرى السائل المستفيد حتى ينقطع الخصم بأقرب الطرق كما جاء في شأن محاجة إبراهيم - عليه السلام - قومه بالكوكب والقمر والشمس ، فإنه فرض نفسه بحضرتهم مسترشدا حتى يبين لهم من نفسه البرهان أنها ليست بآلهة ، وكذلك قوله في الآية الأخرى : إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين [ الشعراء : 70 - 71 ] .

              فلما سأل عن المعبود سأل عن المعنى الخاص بالمعبود بقوله : هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون [ الشعراء : 72 - 73 ] فحادوا عن الجواب إلى الإقرار بمجرد الاتباع للآباء .

              [ ص: 411 ] ومثله قوله : بل فعله كبيرهم الآية [ الأنبياء : 63 ] .

              وقوله تعالى : الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء [ الروم : 40 ] .

              وقوله : أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى الآية [ يونس : 35 ] .

              وقوله : ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها [ الأعراف : 195 ] إلى آخرها .

              فهذه الآي وما أشبهها إشارات إلى التنزل منزلة الاستفادة والاستعانة في النظر ، وإن كان مقتضى الحقيقة فيها تبكيت الخصم ؛ إذ من كان مجيئا بالبرهان في معرض الاستشارة في صحته ، فكان أبلغ في المقصود في المواجهة بالتبكيت ، ولما اخترموا من التشريعات أمورا كثيرة أدهاها الشرك طولبوا بالدليل ، كقوله تعالى : أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم [ الأنبياء : 24 ] .

              قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ يونس : 59 ] .

              ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به الآية [ المؤمنون : 117 ] .

              [ ص: 412 ] وهو من جملة المجادلة بالتي هي أحسن .

              وإن كان المناظر مخالفا له في الكليات التي ينبني عليها النظر في المسألة ، فلا يستقيم له الاستعانة به ، ولا ينتفع به في مناظرته ؛ إذ ما من وجه جزئي في مسألته إلا وهو مبني على كلي ، وإذا خالف في الكلي ، ففي الجزئي المبني عليه أولى ، فتقع مخالفته في الجزئي من جهتين ، ولا يمكن رجوعها إلى معنى متفق عليه ، فالاستعانة مفقودة .

              ومثاله في الفقهيات مسألة الربا في غير المنصوص عليه ، كالأرز ، والدخن ، والذرة ، والحلبة ، وأشباه ذلك ، فلا يمكن الاستعانة هنا بالظاهري النافي للقياس ؛ لأنه بان على نفي القياس جملة ، وكذلك كل مسألة قياسية لا يمكن أن يناظر فيها مناظرة المستعين ؛ إذ هو مخالف في الأصل الذي يرجعان إليه ، وكذلك مسألة الحلبة ، والذرة ، أو غيرهما بالنسبة إلى المالكي إذا استعان بالشافعي أو الحنفي ، وإن قالوا بصحة القياس ؛ لبنائهما المسألة على خلاف ما يبني عليه المالكي ، وهذا القسم شائع في سائر الأبواب ، فإن المنكر للإجماع لا يمكن الاستعانة به في مسألة تنبني على صحة الإجماع ، والمنكر [ ص: 413 ] لإجماع أهل المدينة لا يمكن أن يستعان به في مسألة تنبني عليه من حيث هو منكر ، والقائل بأن صيغة الأمر للندب أو للإباحة أو بالوقف لا يمكن الاستعانة بهم لمن كان قائلا بأنها للوجوب ألبتة .

              فإن فرض المخالف مساعدا صحت الاستعانة ، كما إذا كان مساعدا حقيقة ، وهذا لا يخفى .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية