الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان يعرف ما يعتقدونه من أمانته وعقله ، وظن أنه ما حملهم على هذا إلا العجب من أن يطلع على ما لم يطلعوا عليه - أنكر عليهم ذلك ذاكرا لما ظنه حاملا لهم ملوحا بالعطف إلى التكذيب ، فقال : أوعجبتم أي : أكذبتم وعجبتم أن جاءكم ذكر أي : شرف وتذكير من ربكم أي : الذي لم يقطع إحسانه عنكم قط ، منزلا على رجل منكم أي : عزه عزكم وشرفه شرفكم فما فاتكم شيء لينذركم أي : يحذركم ما لمن كان على ما أنتم عليه من وخامة العاقبة .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان التقدير : فاحذروا ، عطف عليه تذكيرهم بالنعمة مشيرا به إلى التحذير من عظيم النقمة في قوله :واذكروا إذ أي : حين جعلكم خلفاء أي : فيما أنتم فيه من الأرض ، ولما كان زمنهم متراخيا بعدهم ، أتى بالجار ، فقال : من بعد قوم نوح أو يكون المحذوف ما اقتضاه الاستفهام في قوله : أوعجبتم من طلب الجواب ، أي : أجيبوا واذكروا ، أي : ولا تبادروا بالجواب حتى تذكروا ما أنعم به عليكم ، وفيه الإشارة إلى التحذير مما وقع لقوم نوح ، أو يكون العطف على معنى الاستفهام الإنكاري في أفلا تتقون أوعجبتم أي : اتقوا ولا تعجبوا واذكروا ، أو يكون العطف - وهو أحسن - على : اعبدوا الله وقوله : خلفاء [ ص: 438 ] قيل : إنه يقتضي أن يكونوا قاموا مقامهم ، ومن المعلوم أن قوم نوح كانوا ملء الأرض ، وأن عادا إنما كانوا في قطعة منها يسيرة وهي الشجرة من ناحية اليمن ، فقيل : إن ذلك لكون شداد بن عاد ملك جميع الأرض ، فكأنه قيل : جعل جدكم خليفة في جميع الأرض ، فلو حصل الشكر لتمت النعمة ، فأطيعوا يزدكم من فضله ، وقيل : إن قصة ثمود مثل ذلك ، ولم يكن فيهم من ملك الأرض ولا أرض عاد ، فأجيب بما طرد ، وهو أن عادا لما كانوا أقوى أهل الأرض أبدانا وأعظمهم أجسادا وأشدهم خلقا وأشهرهم قبيلة وذكرا - كان سائر الناس لهم تبعا ، وكذا ثمود فيما أعطوه من القدرة على نحت الجبال ونحوها بيوتا ، وعندي أن السؤال من أصله لا يرد فإن بين قولنا : فلان خليفة فلان ، وفلان خليفة من بعد فلان - من الفرق ما لا يخفى ، فالمخلوف في الثاني لم يذكر ، فكأنه قيل : جعلكم خلفاء لمن كان قبلكم في هذه الأرض التي أنتم بها ، وخص قوم نوح وعاد بالذكر تذكيرا بما حل بهم من العذاب ، ولهذا بعينه خص الله هذه الأمم التي وردت في القرآن بالذكر ، وإلا فقد كانت الأمم كثيرة العد زائدة على الحد عظيمة الانتشار في جميع الأقطار ، ومعلوم [ ص: 439 ] أن الله تعالى لم يترك واحدة منها بغير رسول وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قصة هود في سورة الأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه وله سر آخر وهو أن هذه الأمم كان عند العرب كثير من أخبارهم ففصلت لهم أحوالهم ، وطوي عنهم من لم يكن عندهم شعور بهم فلم يذكروا إلا إجمالا لئلا يسارعوا إلى التكذيب بما ينزل فيهم من غير دليل شهودي يقام عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكرهم بمطلق الإبقاء بعد ذلك الإغراق العام - أتبعه التذكير بالزيادة فقال : وزادكم أي : على من قبلكم أو على من هو موجود في الأرض في زمانكم في الخلق أي : الخاص بكم بسطة أي : في الحس بطول الأبدان والمعنى بقوة الأركان ، قيل : كان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعا ، وقيل : أكثر .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما عظمت النعمة ، كرر عليهم التذكير فقال مسببا عن ذلك فاذكروا آلاء الله أي : نعم الذي استجمع صفات العظمة التي أنعم عليكم بها من الاستخلاف والقوة وغيرهما ، واذكروا أنه لا نعمة عندكم لغيره أصلا ، فصار مستحقا لأن تخصوه بالعبادة لعلكم تفلحون أي : ليكون حالكم حال من يرجى فلاحه وهو ظفره بجميع مراده ؛ لأن الذكر موجب للشكر الموجب للزيادة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية