الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : قال أراغب أنت عن آلهتي ياإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا

                                                                                                                                                                                                                                      بين الله جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين : أن إبراهيم لما نصح أباه النصيحة المذكورة مع ما فيها من الرفق واللين ، وإيضاح الحق والتحذير من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر ، ومن عذاب الله تعالى وولاية الشيطان - خاطبه هذا الخطاب العنيف ، وسماه باسمه ولم يقل له " يا بني " في مقابلة قوله له " يا أبت " وأنكر عليه أنه راغب عن عبادة الأوثان ، أي : معرض عنها لا يريدها ; لأنه لا يعبد إلا ال له وحده جل وعلا ، وهدده بأنه إن لم ينته عما يقوله له ليرجمنه ) قيل بالحجارة وقيل باللسان شتما ( والأول أظهر ، ثم أمره بهجره مليا أي : زمانا طويلا ، ثم بين أن إبراهيم قابل أيضا جوابه العنيف بغاية الرفق واللين في قوله : قال سلام عليك سأستغفر لك ربي الآية [ 19 \ 47 ] ، وخطاب إبراهيم لأبيه الجاهل بقوله : سلام عليك قد بين جل وعلا أنه خطاب عباده المؤمنين للجهال إذا خاطبوهم ، كما قال تعالى : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [ 25 \ 63 ] ، وقال تعالى : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [ 28 \ 55 ] ، وما ذكره تعالى هنا من أن إبراهيم لما أقنع أباه بالحجة القاطعة ، قابله أبوه بالعنف والشدة بين في مواضع أخر أنه هو عادة الكفار المتعصبين لأصنامهم ، كلما أفحموا بالحجة القاطعة لجئوا إلى استعمال القوة ، كقوله تعالى عن إبراهيم لما قال له الكفار عن أصنامهم : [ ص: 428 ] لقد علمت ما هؤلاء ينطقون [ 21 \ 65 ] ، قال : أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون [ 21 \ 67 ] ، فلما أفحمهم بهذه الحجة لجئوا إلى القوة ، كما قال تعالى عنهم : قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين [ 21 \ 68 ] ، ونظيره قوله تعالى عن قوم إبراهيم : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار الآية [ 29 \ 24 ] ، وقوله عن قوم لوط لما أفحمهم بالحجة : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم الآية [ 27 \ 56 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : سلام عليك ، يعني : لا ينالك مني أذى ولا مكروه ، بل ستسلم مني فلا أوذيك ، وقوله : سأستغفر لك ربي ، وعد من إبراهيم لأبيه باستغفاره له ، وقد وفى بذلك الوعد ، كما قال تعالى عنه : واغفر لأبي إنه كان من الضالين [ 19 \ 47 ] ، وكما قال تعالى عنه : ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب [ 14 \ 41 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن الله لما بين له أنه عدو لله تبرأ منه ، ولم يستغفر له بعد ذلك ، كما قال تعالى : فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم [ 9 \ 114 ] ، وقد قال تعالى : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه [ 9 \ 114 ] ، والموعدة المذكورة هي قوله هنا : سأستغفر لك ربي الآية [ 19 \ 47 ] ، ولما اقتدى المؤمنون بإبراهيم فاستغفروا لموتاهم المشركين ، واستغفر النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب أنزل الله فيهم : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم [ 9 \ 113 ] ، ثم قال : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه الآية [ 9 \ 114 ] ، وبين في سورة " الممتحنة " أن الاستغفار للمشركين مستثنى من الأسوة بإبراهيم ، والأسوة الاقتداء ، وذلك في قوله تعالى : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله - إلى قوله - إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك [ 60 \ 4 ] ، أي : فلا أسوة لكم في إبراهيم في ذلك ، ولما ندم المسلمون على استغفارهم للمشركين حين قال فيهم : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية [ 9 \ 113 ] ، بين الله تعالى أنهم معذورون في ذلك ; لأنه لم يبين لهم منع ذلك قبل فعله ، وذلك في قوله : وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون [ 9 \ 115 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله في هذه الآية : أراغب أنت عن آلهتي ، يجوز فيه أن يكون " راغب " خبرا [ ص: 429 ] مقدما ، و " أنت " مبتدأ مؤخرا ، وأن يكون " أراغب " مبتدأ ، و " أنت " فاعل سد مسد الخبر ، ويترجح هذا الإعراب الأخير على الأول من وجهين : الأول أنه لا يكون فيه تقديم ولا تأخير ، والأصل في الخبر التأخير كما هو معلوم ، الوجه الثاني هو ألا يكون فصل بين العامل الذي هو " أراغب " ، وبين معموله الذي هو " عن آلهتي " بما ليس بمعمول للعامل ; لأن الخبر ليس هو عاملا في المبتدأ ، بخلاف كون " أنت " فاعلا ، فإنه معمول " أراغب " فلم يفصل بين " أراغب " وبين " عن آلهتي " بأجنبي ، وإنما فصل بينهما بمعمول المبتدأ الذي هو فاعله الساد مسد خبره ، والرغبة عن الشيء : تركه عمدا للزهد فيه وعدم الحاجة إليه ، وقد قدمنا في سورة " النساء " الفرق بين قولهم : رغب عنه ، وقولهم : رغب فيه . في الكلام على قوله تعالى : وترغبون أن تنكحوهن الآية [ 4 \ 127 ] ، والتحقيق في قوله " مليا " أن المراد به الزمن الطويل ومنه قول مهلهل :


                                                                                                                                                                                                                                      فتصدعت صم الجبال لموته وبكت عليه المرملات مليا

                                                                                                                                                                                                                                      وأصله واوي اللام ; لأنه من الملاوة وهي مدة العيش ، ومن ذلك قيل الليل والنهار الملوان ، ومنه قول ابن مقبل :


                                                                                                                                                                                                                                      ألا يا ديار الحي بالسبعان     أمل عليها بالبلى الملوان

                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      نهار وليل دائم ملواهما     على كل حال المرء يختلفان

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : الملوان في بيت ابن مقبل : طرفا النهار .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : إنه كان بي حفيا ، أي : لطيفا بي ، كثير الإحسان إلي ، وجملة : واهجرني عطف على جملة لئن لم تنته لأرجمنك ، وذلك دليل على جواز عطف الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية ، ونظير ذلك من كلام العرب قول امرئ القيس :


                                                                                                                                                                                                                                      وإن شفائي عبرة إن سفحتها     فهل عند رسم دارس من معول

                                                                                                                                                                                                                                      فجملة " وإن شفائي " خبرية ، وجملة " وهل عند رسم " . . . إلخ إنشائية معطوفة عليها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                      تناغي غزالا عند باب ابن عامر     وكحل مآقيك الحسان بإثمد

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا هو الظاهر كما قاله أبو حيان عن سيبويه ، وقال الزمخشري في الكشاف : فإن [ ص: 430 ] قلت : علام عطف واهجرني ؟ قلت على معطوف عليه محذوف يدل عليه " لأرجمنك " أي : فاحذرني واهجرني ; لأن لأرجمنك تهديد وتقريع . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية