الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 452 ] القول في تأويل قوله ( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : ألم تر يا محمد بقلبك الذين يزكون أنفسهم من اليهود فيبرئونها من الذنوب ويطهرونها .

واختلف أهل التأويل في المعنى الذي كانت اليهود تزكي به أنفسها .

فقال بعضهم : كانت تزكيتهم أنفسهم قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه " .

ذكر من قال ذلك :

9733 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا : وهم أعداء الله اليهود ، زكوا أنفسهم بأمر لم يبلغوه ، فقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه . وقالوا : لا ذنوب لنا .

9734 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم قال : هم اليهود والنصارى ، قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه . وقالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى " .

9735 - وحدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك قال : قالت يهود : ليست لنا ذنوب إلا كذنوب أولادنا يوم يولدون . فإن كانت لهم ذنوب فإن لنا ذنوبا فإنما نحن [ ص: 453 ] مثلهم . قال الله تعالى ذكره : ( انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا )

9736 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم قال : قال أهل الكتاب : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى : وقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه " ، وقالوا : نحن على الذي يحب الله " . فقال تبارك وتعالى : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء : حين زعموا أنهم يدخلون الجنة ، وأنهم أبناء الله وأحباؤه وأهل طاعته .

9737 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا : نزلت في اليهود ، قالوا : إنا نعلم أبناءنا التوراة صغارا ، فلا تكون لهم ذنوب ، وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا ، ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل " .

وقال آخرون : بل كانت تزكيتهم أنفسهم تقديمهم أطفالهم لإمامتهم في صلاتهم زعما منهم أنهم لا ذنوب لهم .

ذكر من قال ذلك :

9738 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " يزكون أنفسهم " قال : يهود ، كانوا يقدمون صبيانهم في الصلاة فيؤمونهم ، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم . فتلك التزكية .

9739 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

9740 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن الأعرج ، عن مجاهد قال : كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في [ ص: 454 ] الدعاء والصلاة يؤمونهم ، ويزعمون أنهم لا ذنوب لهم ، فتلك تزكية . قال ابن جريج : هم اليهود والنصارى .

9741 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حصين ، عن أبي مالك في قوله : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم قال : نزلت في اليهود ، كانوا يقدمون صبيانهم يقولون : ليست لهم ذنوب " .

9742 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن أبي مكين ، عن عكرمة في قوله : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم قال : كان أهل الكتاب يقدمون الغلمان الذين لم يبلغوا الحنث يصلون بهم ، يقولون : ليس لهم ذنوب فأنزل الله : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم الآية .

وقال آخرون : بل تزكيتهم أنفسهم كانت قولهم : إن أبناءنا سيشفعون لنا ويزكوننا " .

ذكر من قال ذلك :

9743 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم : وذلك أن اليهود قالوا : إن أبناءنا قد توفوا ، وهم لنا قربة عند الله ، وسيشفعون ويزكوننا . فقال الله لمحمد : " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم " إلى " ولا يظلمون فتيلا " .

وقال آخرون : بل ذلك كان منهم تزكية من بعضهم لبعض .

ذكر من قال ذلك :

9744 - حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، [ ص: 455 ] عن الأعمش ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : قال عبد الله : إن الرجل ليغدو بدينه ، ثم يرجع وما معه منه شيء ، يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرا فيقول : والله إنك لذيت وذيت ، ولعله أن يرجع ولم يحل من حاجته بشيء ، وقد أسخط الله عليه . ثم قرأ : " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم " الآية .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى تزكية القوم الذين وصفهم الله بأنهم يزكون أنفسهم وصفهم إياها بأنها لا ذنوب لها ولا خطايا ، وأنهم لله أبناء وأحباء ، كما أخبر الله عنهم أنهم كانوا يقولونه ؛ لأن ذلك هو أظهر معانيه لإخبار الله عنهم أنهم إنما كانوا يزكون أنفسهم دون غيرها .

وأما الذين قالوا : معنى ذلك : تقديمهم أطفالهم للصلاة فتأويل لا تدرك صحته إلا بخبر حجة يوجب العلم .

وأما قوله - جل ثناؤه - : " بل الله يزكي من يشاء " فإنه تكذيب من الله المزكين أنفسهم من اليهود والنصارى ، المبرئيها من الذنوب . يقول الله لهم : ما الأمر كما [ ص: 456 ] زعمتم أنه لا ذنوب لكم ولا خطايا ، وأنكم برآء مما يكرهه الله ، ولكنكم أهل فرية وكذب على الله ، وليس المزكى من زكى نفسه ، ولكنه الذي يزكيه الله ، والله يزكي من يشاء من خلقه فيطهره ويبرئه من الذنوب بتوفيقه لاجتناب ما يكرهه من معاصيه إلى ما يرضاه من طاعته .

وإنما قلنا إن ذلك كذلك ؛ لقوله - جل ثناؤه - : " انظر كيف يفترون على الله الكذب " وأخبر أنهم يفترون على الله الكذب بدعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأن الله قد طهرهم من الذنوب .

التالي السابق


الخدمات العلمية