الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا ياموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم قصة موسى مع بني إسرائيل

                          هذه الآيات وما بعدها شروع في قصة موسى عليه السلام مع قومه بني إسرائيل معطوفة على قصته مع فرعون وقومه على أكمل وجوه العبرة مع السلامة من لغو القصص والتاريخ . قال عز وجل :

                          وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا ياموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة جاز الشيء ، وجاوزه وتجاوزه : عداه وانتقل عنه ، والعكوف على [ ص: 92 ] الشيء : الإقبال عليه ، وملازمته على سبيل التعظيم ، ومنه العكوف والاعتكاف في المسجد ، وهو ملازمته لأجل العبادة . قرأ حمزة والكسائي ( يعكفون ) بكسر الكاف من باب جلس يجلس ، والباقون بضمها من باب قعد يقعد ، والأصنام : جمع صنم ، وهو ما يصنع من الخشب أو الحجر أو المعدن مثالا لشيء حقيقي أو خيالي أو مذكرا به ليعظم تعظيم العبادة ، واتخذ بعض العرب في الجاهلية صنما من عجوة التمر فعبدوه ثم جاعوا فأكلوه ، والفرق بينه وبين التمثال : أن هذا لا بد أن يكون مثالا لشيء ، وأنه قد يكون للعبادة ، وحينئذ يسمى صنما ، وقد يكون للزينة كالذي نراه على جدران بعض القصور المشيدة أو أبوابها أو في حدائقها ، وقد يكون للتعظيم والتكريم غير الديني كالتماثيل التي تنصب لبعض الملوك ، وكبار علماء الدنيا أو القواد والزعماء ؛ للتذكير بتاريخهم وأعمالهم للاقتداء بهم ، ويكثر هذا في بلاد الإفرنج ، وقلدهم بعض بلاد الشرق كمصر ، فنصبت حكومتها تماثيل لبعض أمراء بيت الملك الحاضر ، وغيرهم من رجالهم ، والفرق بين هذا التعظيم السياسي أو العلمي ، وبين تعظيم العبادة : أن الغرض من الأول إما رفعة شأن الدولة ، وتمكين سلطانها على أنفس الأمة بمشاهدة صور ملوكها ، وكبراء رجالها وتماثيلهم ، وهو قصد سياسي صحيح عند أهله - وإما بعث شعور حب العلم ، والاقتداء بالعلماء والأدباء والزعماء الذين نفعوا أمتهم ، عسى أن يوجد في المستعدين من يكون مثلهم أو خيرا منهم ، وهو قصد اجتماعي صحيح عند علماء التربية ، وأما تعظيم العبادة فالغرض منه التقرب من المعبود ، وطلب ثوابه بدفع ضرر أو جلب منفعة من طريق الغيب لا الكسب ، والتعاون عليه من طريق الأسباب العامة ، فتعظيم الشيء الذي يعتقد أن له سلطة غيبية أو تعظيم ما يذكر به من صورة أو تمثال أو قبر أو ثوب أو غير ذلك من آثاره ؛ لأجل التقرب إليه ، وقصد الانتفاع به في الأمور التي لا تنال بالأسباب العامة - ، وهي ما لا يطلب إلا من الله تعالى ، أو لأجل التقرب إلى الله تعالى بجاهه - كل ذلك عبادة ظاهرة ، فإن قصد المعظم لذلك الشيء ، أو لما يذكر به الانتفاع به نفسه بما ذكر من التعظيم بالقول كالدعاء والاستغاثة أو بالفعل كالطواف بتمثاله أو قبره ، وتقبيله والتمرغ بأرضه - كانت العبادة خالصة له من دون الله ، وإن قصد التقرب به إلى الله تعالى ليحمله بجاهه على إعطائه ما يريد كانت العبادة له ، ولله تعالى بالاشتراك ، وهذا من مظاهر الشرك الجلي التي لا يخرجها تغيير التسمية عن كونها كفرا أو شركا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية