الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وجعلنا ابن مريم وأمه ) أي قصتهما ، وهي ( آية ) عظمى بمجموعها ، وهي آيات مع التفصيل ، ويحتمل أن يكون حذف من الأول آية لدلالة الثاني أي وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية . والربوة هنا . قال ابن عباس وابن المسيب : الغوطة بدمشق ، وصفتها أنها ( ذات قرار ومعين ) على الكمال . وقال أبو هريرة : رملة فلسطين . وقال قتادة وكعب : بيت المقدس ، وزعم أن في التوراة أن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء ، وأنه يزيد على أعلى الأرض ثمانية عشر ميلا . وقال ابن زيد ووهب : الربوة بأرض مصر ، وسبب هذا الإيواء أن ملك ذلك الزمان عزم على قتل عيسى ففرت به أمه إلى أحد هذه الأماكن التي ذكرها المفسرون . وقرأ الجمهور ( ربوة ) بضم الراء ، وهي لغة قريش ، والحسن وأبو عبد الرحمن وعاصم وابن عامر بفتحها ، وأبو إسحاق السبيعي بكسرها ، وابن أبي إسحاق " رباوة " بضم الراء بالألف ، و زيد بن علي والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي في نقل صاحب اللوامح بفتحها وبالألف . وقرئ بكسرها وبالألف . ( ذات قرار ) أي مستوية يمكن القرار فيها للحرث والغراسة ، والمعنى أنها من البقاع الطيبة . وعن قتادة : ذات ثمار وماء ، يعني أنها لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها .

ونداء ( الرسل ) وخطابهم بمعنى نداء كل واحد وخطابه في زمانه إذ لم يجتمعوا في زمان واحد فينادون ويخاطبون فيه ، وإنما أتى بصورة الجمع ليعتقد السامع أن أمرا نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق أن يوحد به ويعمل عليه . وقيل : الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاء بلفظ الجمع لقيامه مقام ( الرسل ) . وقيل : ليفهم بذلك أن هذه طريقة كل رسول كما تقول تخاطب تاجرا : يا تجار ، اتقوا الربا . وقال الطبري : الخطاب ل عيسى ، وروي أنه كان يأكل من غزل أمه ، والمشهور من بقل البرية . وقال الزمخشري : ويجوز أن يقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى و مريم إلى الربوة فذكر على سبيل الحكاية ، أي ( وآويناهما ) وقلنا لهما هذا الذي أعلمناهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا ، وكلا مما رزقناكما واعملا صالحا اقتداء بالرسل ، والطيبات الحلال ، لذيذا كان أو غير لذيذ . وقيل : ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه ، ويشهد له ( ذات قرار ومعين ) ، وقدم الأكل من الطيبات على العمل الصالح دلالة على أنه لا يكون صالحا إلا مسبوقا بأكل الحلال .

( إني بما تعملون عليم ) تحذير في الظاهر ، والمراد اتباعهم ( وإن هذه أمتكم ) الآية ، تقدم تفسير مثلها في أواخر الأنبياء . وقرأ الكوفيون ( وإن ) بكسر الهمزة والتشديد على الاستئناف ، والحرميان وأبو عمرو بالفتح والتشديد أي [ ص: 409 ] ولأن ، و ابن عامر بالفتح والتخفيف وهي المخففة من الثقيلة ، ويدل على أن النداء للرسل نودي كل واحد منهم في زمانه قوله : ( وإن هذه أمتكم ) .

وقوله : ( فتقطعوا ) ، وجاء هنا ( وأنا ربكم فاتقون ) ، وهو أبلغ في التخويف والتحذير من قوله في الأنبياء : ( فاعبدون ) ; لأن هذه جاءت عقيب إهلاك طوائف كثيرين من قوم نوح والأمم الذين من بعدهم وفي الأنبياء ، وإن تقدمت أيضا قصة نوح وما قبلها فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام في قصة أيوب و يونس و زكريا و مريم ، فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته تعالى وجاء هنا ( فتقطعوا ) بالفاء ، إيذانا بأن التقطيع اعتقب الأمر بالتقوى ، وذلك مبالغة في عدم قبولهم وفي نفارهم عن توحيد الله وعبادته . وجاء في الأنبياء بالواو فاحتمل معنى الفاء ، واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر بالعبادة ، وفرح كل حزب بما لديه دليل على نعمته في ضلاله ، وأنه هو الذي ينبغي أن يعتقد وكأنه لا ريبة عنده في أنه الحق .

ولما ذكر تعالى من ذكر من الأمم ومآل أمرهم من الإهلاك حين كذبوا الرسل كان ذلك مثالا ل قريش ، فخاطب رسوله في شأنهم بقوله : ( فذرهم في غمرتهم حتى حين ) ، وهذا وعيد لهم حيث تقطعوا في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقائل هو شاعر ، وقائل ساحر ، وقائل به جنة ، كما تقطع من قبلهم من الأمم ، كما قال : ( أتواصوا به بل هم قوم طاغون ) . قال الكلبي : ( في غمرتهم ) في جهالتهم . وقال ابن بحر : في حيرتهم . وقال ابن سلام : في غفلتهم . وقيل : في ضلالتهم ( حتى حين ) حتى ينزل بهم الموت . وقيل : حتى يأتي ما وعدوا به من العذاب . وقيل : هو يوم بدر . وقيل : هي منسوخة بآية السيف . وقرأ الجمهور : ( في غمرتهم ) و علي بن أبي طالب وأبو حيوة والسلمي " في غمراتهم " على الجمع ; لأن لكل واحد غمرة ، وعلى قراءة الجمهور فغمرة تعم إذا أضيفت إلى عام . وقال الزمخشري : الغمرة الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم ، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل ، قال الشاعر :


كأنني ضارب في غمرة لعب



سلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخره ، انتهى . ثم وقفهم تعالى على خطأ رأيهم في أن نعمة الله عليهم بالمال ونحوه إنما هي لرضاه عن حالهم ، وبين تعالى أن ذلك إنما هو إملاء واستدراج إلى المعاصي واستجرار إلى زيادة الإثم وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ومعاجلة بالإحسان .

وقرأ ابن وثاب ( إنما نمدهم ) بكسر الهمزة . وقرأ ابن كثير في رواية " يمدهم " بالياء ، وما في ( إنما ) إما بمعنى الذي أو مصدرية أو كافة مهيئة ، إن كانت بمعنى الذي فصلتها ما بعدها ، وخبر أن هي الجملة من قوله : ( نسارع لهم في الخيرات ) والرابط لهذه الجملة ضمير محذوف لفهم المعنى تقديره : نسارع لهم به في الخيرات ، وحسن حذفه استطالة الكلام مع أمن اللبس . وتقدم نظيره في قوله : ( أنما نمدهم به ) ، وقال هشام بن معونة : الضرر الرابط هو الظاهر وهو : ( في الخيرات ) وكان المعنى : ( نسارع لهم ) فيه ، ثم أظهر فقال : ( في الخيرات ) فلا حذف على هذا التقدير ، وهذا يتمشى على مذهب الأخفش في إجازته نحو : زيد قام أبو عبد الله إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد ، فالخيرات من حيث المعنى هي الذي مدوا به من المال والبنين ، وإن كانت ما مصدرية فالمسبوك منها ومما بعدها هو مصدر اسم إن ، وخبر إن هو ( نسارع ) على تقدير مسارعة ، فيكون الأصل أن نسارع ، فحذفت أن وارتفع الفعل ، والتقدير أيحسبون أن إمدادنا لهم بالمال والبنين مسارعة لهم في الخيرات . وإن كانت ما كافة مهيئة فهو مذهب الكسائي فيها هنا فلا تحتاج إلى ضمير ولا حذف ، ويجوز الوقف على ( وبنين ) كما تقول حسبت إنما يقوم زيد ، وحسبت أنك منطلق ، وجاز ذلك لأن ما بعد حسبت قد انتظم مسندا ومسندا إليه من حيث المعنى ، وإن كان في ما يقدره مفردا لأنه [ ص: 410 ] ينسبك من أن وما بعدها مصدر .

وقرأ السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة " يسارع " بالياء وكسر الراء فإن كان فاعل : ( نسارع ) ضميرا يعود على ما بمعنى الذي ، أو على المصدر المنسبك من ما نمد فنسارع خبر لأن ولا ضمير ولا حذف أي يسارع هو أي الذي يمد ويسارع ، هو أي إمدادنا . وعن ابن أبي بكرة المذكور بالياء وفتح الراء مبنيا للمفعول . وقرأ الحر النحوي " نسرع " بالنون مضارع أسرع . ( بل لا يشعرون ) إضراب عن قوله : ( أيحسبون ) أي بل هم أشباه البهائم ; لا فطنة لهم ولا شعور ; فيتأملوا ويتفكروا : أهو استدراج أم مسارعة في الخير ، وفيه تهديد ووعيد .



التالي السابق


الخدمات العلمية