الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              الآية التاسعة قوله عز وجل : { رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب } .

                                                                                                                                                                                                              فيها ثلاث مسائل : المسألة الأولى كيف سأل سليمان الملك ، وهو من ناحية الدنيا ؟ قال علماؤنا : إنما سأله ليقيم فيه الحق ، ويستعين به على طاعة الله ، كما قال يوسف : { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } . كما تقدمت الإشارة إليه . المسألة الثانية : كيف منع من أن يناله غيره ؟

                                                                                                                                                                                                              قال علماؤنا : فيه أجوبة سبعة : الأول إنما سأل أن يكون معجزة له في قومه وآية في الدلالة على نبوته .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أن معناه لا تسلبه عني .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : لا ينبغي لأحد من بعدي أن يسأل الملك ، بل يكل أمره إلى الله .

                                                                                                                                                                                                              الرابع لا ينبغي لأحد من بعدي من الملوك ، ولم يرد من الأنبياء .

                                                                                                                                                                                                              الخامس أنه أراد القناعة .

                                                                                                                                                                                                              السادس أنه أراد ملكه لنفسه . [ ص: 58 ]

                                                                                                                                                                                                              السابع علم أن محمدا عبده ولم يسأله إياه ليفضل به . المسألة الثالثة : في التنقيح لمناط الأقوال :

                                                                                                                                                                                                              أما قول من قال : إنه سأل ذلك معجزة فليس في ذلك تخصيص بفائدة ; لأن من شأن المعجزة أن تكون هكذا .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : معناه لا تسلبه عني ، فإنما أراد ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أن يدعيه باطلا ; إذ كان الشيطان قد أخذ خاتمه وجلس مجلسه ، وحكم في الخلق على لسانه ، حسبما روي في كتب المفسرين . وهو قول باطل قطعا ; لأن الشيطان لا يتصور بصورة الأنبياء ، ولا يحكمون في الخلق بصورة الحق ، مكشوفا إلى الناس : بمرأى منهم ; حتى يظن الناس أنهم مع نبيهم في حق ، وهم مع الشيطان في باطل ; ولو شاء ربك لوهب من المعرفة والدين لمن قال هذا القول ما يزعه عن ذكره ، ويمنعه من أن يخلده في ديوان من بعده ، حتى يضل به غيره .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إن معناه لا ينبغي لأحد من بعدي أن يسأل الملك فإن ذلك إنما كان يصح لو جاء بقوله : { لا ينبغي لأحد من بعدي } في سعة الاستئناف للقول والابتداء بالكلام .

                                                                                                                                                                                                              أما وقد جاء مجيء الجملة الحالة محل الصفة لما سبق قبلها من القول فلا يجوز تفسيره بهذا لتناقض المعنى فيه وخروج ذلك عن القانون العربي .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إن معناه لا ينبغي لأحد من بعدي من الملوك دون الأنبياء فهذا قول قليل الفائدة جدا ; إذ قد علم قطعا ويقينا هو والخلق كلهم معه أن الملوك لا سبيل لهم إلى ذلك ، لا بالسؤال ، ولا مع ابتداء العطاء ، وهو مع ما بعده أمثل من غيره مما يستحيل وقوعه . وأما من قال : إنه علم أن عيسى عليه السلام على درجة من الزهد ، وأن محمدا عبد لا ملك ، فأراد أن سليمان علم أن أحدا من الأنبياء بعده لا يؤتى ذلك ، وأن محمدا مع فضله لا يسأله ، لأنه نبي عبد ، وليس بنبي ملك ، فحينئذ أقدم على السؤال ، وهو قول متماثل [ ص: 59 ] ويشبه أن يكون الله تعالى أذن له في ذلك ، وأنه يعطيه بسؤاله ، كما غفر لمحمد صلى الله عليه وسلم بشرط استغفاره . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                              وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن عفريتا تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي ، فأمكنني الله منه ، وأردت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد ، ثم ذكرت قول أخي سليمان : { رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } . فأرسلته ، فلولا ذلك لأصبح يلعب به ولدان المدينة } .

                                                                                                                                                                                                              وهذا يدل على مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لدعائه ، وأن معناه لا يكون لأحد في حياته ولا بعد مماته ، وذلك بإذن من الله تعالى مشروع ; إذ لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم غيره .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية