الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكان ملك الشام وأحد أكابر علمائهم بالنصرانية ( هرقل ) قد عرف أنه رسول الله حقا ، وعزم على الإسلام فأبى عليه عباد الصليب ، فخافهم على نفسه ، وضن بملكه - مع علمه - بأنه سينقل عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته ، ونحن نسوق قصته .

ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس ، أن أبا سفيان أخبره من فيه ، قال : انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال فبينا أنا في الشام إذ جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ، وقد كان دحية بن خليفة جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى ، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل ، فقال هرقل : هاهنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ قالوا : نعم ، قال : فدعيت في نفر من قريش ، فدخلنا على هرقل ، فأجلسنا بين يديه ، وأجلسوا أصحابي خلفي ، فدعا بترجمانه فقال : قل لهم : إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي ، فإن كذبني فكذبوه . فقال أبو سفيان : وايم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت . ثم قال لترجمانه : سله ، كيف حسبه فيكم ؟ قال : [ ص: 276 ] قلت : ذو حسب ، قال : فهل كان من آبائه من ملك ؟ قلت : لا . قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا ، قال : فمن اتبعه ، أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟ قلت : بل ضعفاؤهم ، قال : أيزيدون أم ينقصون ؟ قلت : لا بل يزيدون ، قال : فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟ قلت : لا ، قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت : نعم ، قال : فكيف قتالكم إياه ؟ قال : قلت يكون الحرب بيننا وبينه سجالا ، يصيب منا ، ونصيب منه ، قال : فهل يغدر ؟ قلت : لا ، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها .

قال : فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه ، قال : فهل قال هذا القول أحد قبله ؟ قلت لا . قال لترجمانه : قل له : إني سألتك عن حسبه فزعمت أنه فيكم ذو حسب ، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها ، وسألتك هل كان في آبائه ملك ؟ فزعمت أنه لا فقلت لو كان في آبائه ملك لقلت يطلب ملك آبائه ، وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم ؟ فقلت : بل ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرسل ، فسألتك هل كنتم متهمونه بالكذب قبل أن يقول ما يقول ؟ فزعمت أن لا ، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب ويكذب على الله ، وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن دخله سخطة له ؟ فزعمت أن لا ، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب ، وسألتك هل يزيدون أم ينقصون ؟ فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم ، وسألتك ، هل قاتلتموه ؟ فزعمت أنكم قاتلتموه ، فيكون الحرب بينكم وبينه سجالا ، ينال منكم وتنالون منه ، وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة ، وسألتك هل يغدر ؟ فزعمت أنه لا يغدر ، وكذلك الرسل لا تغدر . وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله ؟ فزعمت أن لا ، فقلت لو قال هذا القول أحد من قبله قلت رجل ائتم بقول قيل قبله ، ثم قال : فيم يأمركم ؟ قلت : يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف ، قال : إن يكن ما تقوله حقا إنه نبي ، وقد كنت أعلم أنه خارج ، ولكن لم أكن أظنه منكم ، لو أعلم أني أخلص [ ص: 277 ] إليه لأحببت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي ، ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .

[ ص: 278 ] فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط وأمر بنا فخرجنا ، ثم أذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ، ثم أمر بأبوابها فغلقت ، ثم طلع فقال : يا معشر الروم ، هل لكم في الفلاح والرشد ، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي ؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت ، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال : ردوهم علي ، فقال : إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم ، فقد رأيت ، فسجدوا له ورضوا عنه
.

فهذا ملك الروم - وكان من علمائهم أيضا - عرف وأقر أنه نبي ، وأنه سيملك ما تحت قدميه ، وأحب الدخول في الإسلام فدعا قومه إليه فولوا عنه معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة فمنعه من الإسلام الخوف على ملكه ورئاسته ، ومنعه أشباه الحمير مما منع الأمم قبلهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية