الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              12 [ ص: 157 ] (2) باب

                                                                                              وجوب التزام شرائع الإسلام

                                                                                              [ 9 ] عن طلحة بن عبيد الله ، قال : جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد ، ثائر الرأس ، يسمع دوي صوته ، ولا يفقه ما يقول ، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو يسأل عن الإسلام ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خمس صلوات في اليوم والليلة ، فقال : هل علي غيرهن ؟ فقال : لا ، إلا أن تطوع ، وصيام شهر رمضان ، فقال : هل علي غيره ؟ قال : لا ، إلا أن تطوع ، وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة ، فقال : هل علي غيرها ؟ قال : لا ، إلا أن تطوع ، قال : فأدبر الرجل وهو يقول : والله ، لا أزيد على هذا ، ولا أنقص منه!! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أفلح إن صدق .

                                                                                              وفي رواية : أفلح وأبيه إن صدق ، أو : دخل الجنة وأبيه إن صدق .

                                                                                              رواه البخاري ( 2678 ) ، ومسلم ( 11 ) ، وأبو داود ( 391 ) ، والنسائي ( 1 \ 227 ) ، و ( 8 \ 118 ) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (2) ومن باب وجوب التزام شرائع الإسلام

                                                                                              الشرائع : جمع شريعة ، وهي في أصل اللغة : مشرعة الماء ، وهي مورد الشارعة ، فسميت شرائع الإسلام بذلك ; لأنها الأحكام التي لا بد للمكلفين من الورود عليها والعمل بها .

                                                                                              و ( قوله : " جاء رجل من أهل نجد ثائر الرأس " ) قيل : إن هذا الرجل هو ضمام بن ثعلبة الذي سماه البخاري في حديث أنس المذكور بعد هذا ، وإن الحديثين حديث واحد ، وهذا فيه بعد ; لاختلاف مساقهما ، وتباين الأسئلة فيهما ، ولزيادة الحج في حديث أنس ، ويبعد الجمع بينهما ; فالأولى أن يقال : هما حديثان مختلفان ، وكذلك القول في كل ما يرد من الأحاديث التي فيها الأسئلة المختلفة ; كحديث أبي أيوب ، وجابر ، وغيرهما مما يذكر بعد هذا . وقد رام بعض العلماء الجمع بينها ، وزعم أنها كلها حديث واحد ، فادعى فرطا ، وتكلف شططا ، من غير ضرورة نقلية ، ولا عقلية .

                                                                                              والنجد : المرتفع من الأرض ، والغور : المنخفض منها ، وهما بحكم العرف جهتان مخصوصتان .

                                                                                              وثائر الرأس : منتفش الشعر مرتفعه ، من قولهم : ثار الشيء : إذا ارتفع ، ومنه : ثارت الفتنة ، وهذه صفة أهل البادية غالبا .

                                                                                              [ ص: 158 ] و ( قوله : " نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول ") رويناه : يسمع ، ويفقه بالياء اثنتين من تحتها مبنيا لما لم يسم فاعله ، وبالنون فيهما للفاعل ، وكلاهما واضح الصحة ، وإنما لم يفهموا ما يقول ; لأنه نادى من بعد ، فلما دنا فهموه ; كما قال : حتى دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                              و ( قوله : " فإذا هو يسأل عن الإسلام ") " إذا " هذه هي المفاجئة التي تقدم ذكرها .

                                                                                              وهذا السائل إنما سأل عن شرائع الإسلام ، لا عن حقيقة الإسلام ; إذ لو كان ذلك ، لأجابه بما أجاب به جبريل - عليه السلام - في حديثه ، ولما رواه البخاري في هذا الحديث ; فإنه قال : فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإسلام ، وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم عنه أنه إنما سأل عما تعين فعله من شرائع الإسلام الفعلية لا القلبية ; ولذلك لم يذكر له : أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وكذلك لم يذكر له الحج ; لأنه لم يكن واجبا عليه ; لأنه غير مستطيع ، أو لأن الحج على التراخي ، أو لأنه كان قبل فرض الحج ، والله أعلم ، وسيأتي ذكر الاختلاف في وقت فرض الحج .

                                                                                              و ( قوله : " خمس صلوات في اليوم والليلة ، فقال : هل علي غيرهن ؟ فقال : لا يدل هذا على أن الوتر ليس بلازم ولا واجب ; وهو مذهب الجمهور ، وخالفهم [ ص: 159 ] أبو حنيفة ، فقال : إنه واجب ، ولا يسميه فرضا ; لأن الفرض عنده ما كان مقطوعا بلزومه ; كالصلوات الخمس .

                                                                                              و ( قوله : " هل علي غيرهن ؟ فقال : لا ، إلا أن تطوع ") ظاهر في أن معنى هذا الكلام : هل يجب علي من تطوع الصلوات شيء غير هذه الخمس ؟ فأجابه : بأنه لا يجب عليه شيء ، إلا أن تطوع ، فيجب عليك .

                                                                                              وهذا ظاهر ; لأن أصل الاستثناء من الجنس ، والاستثناء من غير الجنس مختلف فيه ، ثم هو مجاز عند القائل به . فإذا حملناه على الاستثناء المتصل ، لزم منه أن يكون التطوع واجبا ، ولا قائل به ; لاستحالته وتناقضه ، فلم يبق إلا ما ذهب إليه مالك ، وهو أن التطوع يصير واجبا بنفس الشروع فيه ، كما يصير واجبا بالنذر ; فالشروع فيه التزام له ; وحينئذ : يكون معنى قوله : " أن تطوع " : أن تشرع فيه وتبتدئه ، ومن ادعى أنه استثناء من غير الجنس ، طولب بتصحيح ما ادعاه ، وتمسك مانعه بالأصل الذي قررناه .

                                                                                              و ( قوله : " فأدبر الرجل وهو يقول : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص " ) قيل معناه : لا أغير الفروض المذكورة بزيادة فيها ولا نقصان منها . ولا يصح أن يقال : إن معناه : لا أفعل شيئا زائدا على هذه الفرائض المذكورة من السنن ، ولا من فروض أخر إن فرضت ، فإن ذلك لا يجوز أن يقوله ولا يعتقده ; لأنه منكر ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقر على مثله .

                                                                                              [ ص: 160 ] و ( قوله : " أفلح وأبيه إن صدق " ) أي : فاز بمطلوبه ; قال الهروي : العرب تقول لكل من أصاب خيرا : مفلح ، قال ابن دريد : أفلح الرجل وأنجح : إذا أدرك مطلوبه . وأصل الفلاح الشق والقطع ; قال الشاعر :


                                                                                              . . . . . . . . . . . إن الحديد بالحديد يفلح

                                                                                              أي : يشق ; فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه . وقد استعمل الفلاح في البقاء . كما قال :


                                                                                              لو كان حي مدرك الفلاح أدركها ملاعب الرماح

                                                                                              وقال آخر :


                                                                                              نحل بلادا كلها حل قبلنا ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير

                                                                                              و (قوله : " وأبيه ") الرواية الصحيحة التي لا يعرف غيرها هكذا ، بصيغة القسم بالأب . وقال بعضهم : إنما هي : " والله " وصحفت بأن قصرت اللامان ; فالتبست بأبيه ; وهذا لا يلتفت إليه ; لأنه تقدير يخرم الثقة برواية الثقات الأثبات .

                                                                                              وإنما صار هذا القائل إلى هذا الاحتمال ; لما عارضه عنده من نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الحلف بالآباء ; حيث قال : " لا تحلفوا بآبائكم ; من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " . وينفصل عن هذا من وجهين :

                                                                                              أحدهما : أن يقال : إن هذا كان قبل النهي عن ذلك .

                                                                                              والثاني : أن يكون ذلك جرى على اللسان بحكم السبق من غير قصد [ ص: 161 ] للحلف به ، كما جرى منه : تربت يمينك ، وعقرى حلقى ، وهذه عادة عربية بشرية لا مؤاخذة عليها ، ولا ذم يتعلق بها .

                                                                                              وقد جاء في هذا الحديث : الصدق في الخبر المستقبل ، وهو رد على ابن قتيبة إذ قال : الصدق إنما يدخل على الماضي ، والخلف في المستقبل ، ويرد عليه أيضا قوله تعالى : ذلك وعد غير مكذوب [ هود : 65 ] .

                                                                                              و (قوله : " أفلح وأبيه إن صدق " أو : " دخل الجنة وأبيه إن صدق ") هذا شك من بعض الرواة في هذا الطريق ، وقد جاء طريق آخر بالجزم على أحدهما ; كما تقدم . ثم معنى اللفظين واحد ، فلا يضر الشك ، وإنما ذكره الراوي متحريا .




                                                                                              الخدمات العلمية