الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            سورة آل عمران

            مسألة : المسئول من صدقاتكم ، فسح الله في أجلكم بيان معنى قول الإمام البيضاوي في تفسير سورة آل عمران عند قوله تعالى : ( بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ) ذكر الخير وحده ; لأنه المقضي بالذات والشر مقضي بالعرض ؛ إذ لا يوجد شر جزئي ما لم يتضمن خيرا كليا -بيانا شافيا .

            الجواب : لا شك أن الشرائع كلها متفقة على النظر إلى جلب المصالح ودرء المفاسد ، وكذا أحكام القضاء والقدر جارية على سنن ذلك ، وإن خفي وجه ذلك على الناس في كثير منها ; ولهذا ورد في الحديث : " لا تتهم الله على نفسك " فإذا علم ذلك ، ومن المعلوم أن الله قدر الخير والشر كان مظنة أن يقول قائل : كيف قدر الشر وهو خلاف ما علم نظره إليه شرعا وقدرا ؟ وهذه هي الشبهة التي تمسك بها المعتزلة ، والجواب : أن الشر اليسير إذا كان وسيلة إلى خير كثير كان ارتكابه مصلحة لا مفسدة ، ألا ترى أن الفصد والحجامة وشرب الدواء الكريه ، وقطع السلعة ونحوها من الأمور المؤلمة لكونه وسيلة إلى حصول الصحة ؟ يحسن ارتكابه في مقتضى الحكمة ، ويعد خيرا لا شرا ، وصحة لا مرضا ، لاستلزامه ذلك فكذلك كل ما قضاه الله من الشر فإنما قضاه بحكمة بالغة ، وهو وسيلة إلى خير أعظم وأعم نفعا ; ولهذا ورد : " لا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين " ، وورد : " لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك ؛ العجب العجب " فتقدير الذنوب وإن كان شرا فليست لكونها مقصودة في نفسها بل لغيرها وهو السلامة من داء العجب التي هي خير عظيم .

            قال بعض المحققين : ولهذا قيل : يا من إفساده إصلاح يعني أن ما قدره من المفاسد فلتضمنه مصالح عظيمة اغتفر ذلك القدر اليسير في جنبها لكونه وسيلة إليها ، وما أدى إلى الخير فهو خير ، فكل شر قدره الله لكونه لم يقصد بالذات بل بالعرض لما يستلزمه من الخير الأعظم يصدق عليه بهذا الاعتبار أنه خير فدخل في قوله : ( بيدك الخير ) فلذا اقتصر عليه في وجه أنه شامل لما قصد أصلا ، ولما وقع [ ص: 357 ] استلزاما ، وهذه من مسألة ليس في الإمكان أبدع مما كان ، التي قررها الغزالي وألفنا في شرحها كتاب : تشييد الأركان ، فلينظره من أراد البسط ، والله أعلم .

            مسألة - في قوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت ) كيف أضاف الحج إلى البيت ، والمضاف غير المضاف إليه ؟ ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم : " الحج عرفة " .

            الجواب : كيف تسأل عن هذا ومن شأن المضاف أبدا أن يكون غير المضاف إليه إلا إضافة البيان ؟ وهذه الإضافة في الآية من باب إضافة المصدر إلى مفعوله ، وأما حديث " الحج عرفة " فعلى حذف مضاف ، والتقدير معظم أفعال الحج وقوف عرفة .

            فأعاد السائل السؤال : يحيط علم سيدنا ومولانا أنه إذا كان معظم أفعال الحج يكون بعرفة فما الحكمة في إضافة الحج إلى البيت دون غيره .

            فأجبت : البيت هو المقصود بالذات فأضيف الحج إليه قال تعالى : ( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ) ، وقال سبحانه : ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ) وقال : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ) فالآيات والأحاديث دلت على أن البيت هو المقصود الأعظم وهو أشرف من عرفة وسائر البقاع ، إلا القبر الشريف النبوي ، فأضيف الحج إليه ; لأنه المعظم فوق عرفة ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " الحج عرفة " فاعتبار آخر ، وذلك لأنه سيق لبيان ما يعتني الحاج بحصوله خوف فوات الحج ، فإن وقوف عرفة مقدر بزمان مخصوص ، وهو من زوال الشمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم العيد ، فمن لم يدرك الوقوف في لحظة من هذا الزمان فاته الحج بخلاف الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والحلق التي هي بقية أركان الحج ، فإنها لا تفوت أصلا ولا تتقيد بوقت بل هي مطلقة متى فعلت أجزأت ؛ فلهذا قال : " الحج عرفة " أي : الأمر الذي يحصل به إدراك الحج أو فواته وقوف عرفة ، فمن أدركه أدرك الحج ، ومن فاته فاته الحج فهذه إضافة اعتبارية ، وقوله : حج البيت إضافة حقيقية ، فافهم الفرق بين الإضافتين .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية