الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            سورة الصافات

            36 - القول الفصيح في تعيين الذبيح

            بسم الله الرحمن الرحيم

            الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، وبعد : فقد وردت إلي فتوى في السيد إسحاق ، والسيد إسماعيل من الذبيح منهما ؟ والخلاف الوارد فيهما ما الأصح والراجح منه ؟

            فأجبت : الخلاف في الذبيح معروف مشهور بين الصحابة فمن بعدهم ، ولكل من القولين حجج ، أما القول بأنه إسماعيل فهو قول علي ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، وأبي الطفيل [ ص: 378 ] وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والشعبي ، ويوسف بن مهران ، والحسن البصري ، ومحمد بن كعب القرظي ، وسعيد بن المسيب ، وأبي جعفر الباقر ، وأبي صالح ، والربيع بن أنس ، والكلبي ، وأبي عمرو بن العلاء ، وأحمد بن حنبل وغيرهم ، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ، ورجحه جماعة خصوصا غالب المحدثين ، وقال أبو حاتم : الصحيح أنه إسماعيل ، وقال البيضاوي : إنه الأظهر ، وفي الهدى أنه الصواب عند علماء الصحابة والتابعين فمن بعدهم .

            قال : وأما القول بأنه إسحاق فمردود بأكثر من عشرين وجها ، روى الحاكم في المستدرك ، وابن جرير في تفسيره ، والأموي في مغازيه ، والخلعي في فوائده من طريق إسماعيل بن أبي كريمة ، عن عمر بن أبي محمد الخطابي ، عن العتبي ، عن أبيه ، عن عبد الله بن سعد عن الصنابحي قال : " حضرنا مجلس معاوية رضي الله عنه فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق ابني إبراهيم أيهما الذبيح ؟ فقال بعض القوم : إسماعيل ، وقال بعضهم بل : إسحاق ، فقال معاوية : على الخبير سقطتم ، كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أعرابي فقال : يا رسول الله ، خلفت الكلأ يابسا ، والماء عابسا ، هلك العيال ، وضاع المال ، فعد علي مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه ، فقال القوم : من الذبيحان يا أمير المؤمنين ؟ قال : إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل أمرها أن ينحر بعض بنيه فلما فرغ أسهم بينهم وكانوا عشرة ، فخرج السهم على عبد الله فأراد أن ينحره فمنعه أخواله بنو مخزوم ، وقالوا : أرض ربك وافد ابنك ففداه بمائة ناقة ، قال معاوية : هذا واحد والآخر إسماعيل " هذا حديث غريب وفي إسناده من لا يعرف حاله .

            وروى الإمام أحمد في مسنده من طريق حماد بن سلمة ، عن أبي عاصم الغنوي ، عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس قال : لما أمر إبراهيم بالمناسك عرض له الشيطان عند المسعى ، فسابقه فسبقه إبراهيم ، ثم ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى ، فرماه بسبع حصيات ، وثم تله للجبين ، وعلى إسماعيل قميص أبيض فقال له : يا أبت ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره فاخلعه حتى تكفنني فيه ، فعالجه ليخلعه فنودي من خلفه ( أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا ) الحديث بطوله في المناسك ، ثم رواه أحمد من طريق حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس فذكره إلا أنه قال : إسحاق ، قال ابن كثير : والأول أصح ؛ لأن أمور المناسك إنما وقعت [ ص: 379 ] لإبراهيم وإسماعيل .

            وروى أحمد أيضا عن سفيان ، عن منصور ، عن خاله مسافع ، عن صفية بنت شيبة قالت : " أخبرتني امرأة من بني سليم ولدت عامة أهل دارنا ، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة ، وقالت مرة : أنها سألت عثمان : لم دعاك النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : قال : إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما ، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلين " .

            قال ابن كثير : هذا دليل مستقل على أن الذبيح إسماعيل ، فإن قريشا توارثوا قرني الكبش الذي فدى به إبراهيم خلفا عن سلف ، وقال الشعبي : قد رأيت قرني الكبش في الكعبة ، وقال ابن جرير : ثنا يونس ، أنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن قيس ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس قال : المفدى إسماعيل ، وزعمت اليهود أنه إسحاق ، وكذبت اليهود ، وقال ابن إسحاق : ذكر محمد بن كعب أن عمر بن عبد العزيز أرسل إلى رجل كان يهوديا فأسلم ، وحسن إسلامه وكان من علمائهم فسأله : أي ابني إبراهيم أمر بذبحه ؟ فقال : إسماعيل والله يا أمير المؤمنين وإن يهود لتعلم بذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب ، وقال ابن كثير : نص في التوراة أن إسماعيل ولد ولإبراهيم ست وثمانون سنة ، وولد إسحاق وله تسع وتسعون ، وعندهم أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده - وفي نسخة : بكره - فأقحموا هاهنا كذبا وحسدا ( إسحاق ) وحرفوا وحيدك بمعنى الذي ليس عندك غيره ، فإن إسماعيل كان بمكة ، وهذا تحريف وتأويل باطل فإنه لا يقال : وحيد إلا لمن ليس له غيره ، وأيضا فإن أول ولد له معزة ما ليست لمن بعده من الأولاد ، فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء والاختبار ; ولأن الله تعالى قال بعد ذلك : ( وبشرناه بإسحاق ) فدل على أن المأمور بذبحه غيره وقال : ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) أي يولد له ولد يسمى يعقوب وذلك لا يتخلف فامتنع أن يؤمر بذبحه ، قال : ومن قال إنه إسحاق فإنما أخذه عن أهل الكتاب بلا حجة ، وليس فيه كتاب ولا سنة ، قال : وقد ورد في ذلك حديث لو ثبت لقلنا به على الرأس والعين ، وهو ما رواه ابن جرير عن أبي كريب ، عن زيد بن حباب ، عن الحسن بن دينار ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن الحسن ، عن الأحنف بن قيس ، عن العباس بن عبد المطلب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الذبيح إسحاق " والحسن بن دينار متروك وشيخه منكر الحديث ، وقد رواه ابن أبي حاتم عن أبيه ، عن مسلم بن إبراهيم ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد به مرفوعا ، ثم رواه عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن الأحنف ، عن العباس قوله ، وهذا أشبه وأصح انتهى .

            [ ص: 380 ] قلت : قد رفعه مبارك مرة فرواه البزار في مسنده عن معمر بن سهل الأهوازي ، عن مسلم بن إبراهيم ، عن مبارك ، عن الحسن ، عن الأحنف ، عن العباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الذبيح إسحاق " وله شواهد أحدها ما أخرجه البزار عن أبي كريب ، عن زيد بن الحباب ، عن أبي سعيد ، عن علي بن زيد ، عن الحسن ، عن الأحنف ، عن العباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال داود : أسألك بحق آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، قال : أما إبراهيم ، فألقي في النار فصبر في أجلي ، وتلك بلية لم تنلك ، وأما إسحاق فبذل نفسه للذبح فصبر من أجلي ، وتلك بلية لم تنلك ، وأما يعقوب فغاب يوسف عنه ، وتلك بلية لم تنلك " وأبو سعيد : هو الحسن بن دينار ضعيف كما تقدم ، وأخرج الديلمي في مسند الفردوس من طريق عبد الله بن محمد بن ناجية ، عن محمد بن حرب النسائي ، عن عبد المؤمن بن عباد ، عن الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن داود سأل ربه مسألة فقال : اجعلني مثل إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، فأوحى الله إليه أني ابتليت إبراهيم بالنار فصبر ، وابتليت إسحاق بالذبح فصبر ، وابتليت يعقوب فصبر " .

            الحديث الثاني : ما أخرجه الدارقطني والديلمي في مسند الفردوس من طريقه عن محمد بن أحمد بن إبراهيم الكاتب ، عن الحسين بن فهم ، عن خلف بن سالم ، عن بهز بن أسد ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الذبيح إسحاق " .

            الثالث : ما أخرجه الطبراني في الكبير من طريق شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص قال : " افتخر رجل عند ابن مسعود - وفي لفظ : فاخر أسماء بن خارجة رجلا فقال : أنا ابن الأشياخ الكرام ، فقال عبد الله : ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله " وهذا إسناد صحيح موقوف ، وروي أيضا عنه قال : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أكرم الناس ؟ قال : يوسف بن إسحاق ذبيح الله " وفي سنده بقية وهو مدلس ، وأبو عبيدة عن أبيه عبد الله منقطع .

            الرابع : ما أخرجه الطبراني في الأوسط ، وابن أبي حاتم في تفسيره من طريق الوليد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي ، أو شفاعتي فاخترت شفاعتي ، ورجوت أن يكون أعم لأمتي ، ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لعجلت دعوتي ، إن الله لما فرج عن إسحاق كرب الذبح قيل له : يا إسحاق سل تعطه ، قال : أما والله لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان : اللهم من مات لا يشرك بك شيئا قد أحسن فاغفر له " وعبد الرحمن ضعيف ، قال ابن كثير : والحديث غريب [ ص: 381 ] منكر ، قال : وأخشى أن يكون فيه زيادة مدرجة ، وهي قوله : إن الله لما فرج إلى آخره ، وإن كان محفوظا فالأشبه أن السياق عن إسماعيل ، وحرفوه بإسحاق .

            وأخرج عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن القاسم قال : اجتمع أبو هريرة ، وكعب فجعل أبو هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن لكل نبي دعوة مستجابة ، وإني قد خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة " فقال كعب : " أفلا أخبرك عن إبراهيم ؟ إنه لما رأى ذبح ابنه إسحاق قال الشيطان : إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبدا ، فخرج إبراهيم بابنه ; ليذبحه فذهب الشيطان فدخل على سارة ، فقال : أين ذهب إبراهيم بابنك ؟ قالت : غدا به لبعض حاجاته ، قال : فإنه لم يغد به لحاجة ، وإنما ذهب به ليذبحه ، قالت : ولم يذبحه ؟ قال : زعم أن ربه أمره بذلك ، قالت : قد أحسن أن يطيع ربه ، فذهب الشيطان في أثرهما ، فقال للغلام : أين ذهب بك أبوك ؟ قال : لبعض حاجاته ، قال : فإنه لا يذهب بك لحاجة ولكنه يذهب بك ليذبحك ، قال : ولم يذبحني ؟ قال : يزعم أن ربه أمره بذلك ، قال : فوالله لئن كان الله أمره بذلك ليفعلن ، فتركه ولحق بإبراهيم ، فقال : أين غدوت بابنك ؟ قال : لحاجة قال : فإنك لم تغد به لحاجة إنما غدوت به لتذبحه ، قال : ولم أذبحه ؟ قال : تزعم أن ربك أمرك بذلك ، قال : فوالله لئن كان الله أمرني بذلك لأفعلن ، فتركه ويئس أن يطاع " وقد رواه ابن جرير ، عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب أن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن حارثة الثقفي أخبره أن كعبا قال لأبي هريرة فذكره بطوله ، وقال في آخره : " وأوحى الله إلى إسحاق : إني أعطيتك دعوة أستجيب لك فيها ، قال إسحاق : اللهم إني أدعوك أن تستجيب لي أيما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئا فأدخله الجنة " ، وقال عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد : أنا الليث بن خالد أبو بكر البلخي ، حدثنا محمد بن ثابت العبدي ، عن موسى بن أبي بكر عن سعيد بن جبير قال : لما رأى إبراهيم في المنام ذبح إسحاق سار به من منزله إلى المنحر بمنى مسيرة شهر في غداة واحدة ، فلما صرف عنه الذبح وأمر بذبح الكبش ذبحه ، ثم راح به رواحا إلى منزله في عشية واحدة مسيرة شهر طويت له الأودية والجبال ، وهذا القول نسبه القرطبي للأكثرين ، وعزاه البغوي وغيره إلى عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وجابر ، والعباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والشعبي ، وعبيد بن عمير ، وأبي ميسرة ، وزيد بن أسلم ، وعبد الله بن شقيق ، والزهري ، والقاسم بن يزيد ، ومكحول ، وكعب ، وعثمان بن حاضر ، والسدي ، والحسن ، وقتادة ، وأبي [ ص: 382 ] الهذيل ، وابن سابط ، ومسروق ، وعطاء ، ومقاتل - وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس - واختاره الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري ، وأجاب عن البشارة بيعقوب بأنه كان قد بلغ معه السعي - أي : العمل - ومن الممكن أنه كان ولد له أولاد مع يعقوب أيضا ، وأما القرنان فمن الجائز أنهما نقلا من بلاد الشام ، وقال سعيد بن جبير : سار به من الشام على البراق حتى أتى به منى في ليلة واحدة ، فلما صرف عنه الذبح سار به كذلك ، وأخرج من طريق داود عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : ( وبشرناه بإسحاق نبيا ) قال : بشر به نبيا حين فداه الله من الذبح ، ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده ، وجزم بهذا القول القاضي عياض في الشفا ، والسهيلي في التعريف والإعلام ، وكنت ملت إليه في علم التفسير ، وأنا الآن متوقف في ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية