الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        1730 [ ص: 311 ] 1731 - مالك ، عن وهب بن كيسان ، عن جابر بن عبد الله أنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا قبل الساحل ، فأمر عليها أبا عبيدة بن الجراح ، وهم ثلاثمائة قال وأنا فيهم قال فخرجنا ، حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد ، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك كله ، فكان مزودي تمر قال فكان يقوتناه كل يوم قليلا قليلا ، حتى فني ، ولم تصبنا إلا تمرة تمرة ، فقلت : وما تغني تمرة ؟ فقال : لقد وجدنا فقدها حين فنيت قال ثم انتهينا إلى البحر ، فإذا حوت مثل الظرب ، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة ، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا ، ثم أمر براحلة فرحلت . ثم مرت تحتهما ولم تصبهما .

                                                                                                                        قال مالك : الظرب الجبيل .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        39752 - قال أبو عمر : قال صاحب العين : الظرب بكسر الظاء والجمع الظراب ، وهو ما كان من الحجارة أصله ثابت في جبل أو أرض خزنة ، وكان طرفه الثاني محددا ، فإن كان خلفه الجبل كذلك ، سمي ظربا ، والجمع ظراب .

                                                                                                                        [ ص: 312 ] 39753 - قال أبو عمر : روى هذا الحديث عن جابر جماعة من ثقاة التابعين ، ومعانيهم متقاربة ، فإذا كان بعضهم يزيد على بعض فيه معنى ليس عند غيرهم ، منهم عمرو بن دينار وأبو الزبير ، وعبيد الله بن مقسم ، وطلحة بن نافع ، وأبو سفيان .

                                                                                                                        39754 - وقد ذكرنا كثيرا منها في " التمهيد " .

                                                                                                                        39755 - ورواه ابن جريج مختصرا مستوعبا ، قال : حدثني عمرو بن دينار ، أنه سمع جابر بن عبد الله الأنصاري يقول : غزونا جيش الخبط وأميرنا أبو عبيدة بن الجراح ، فجعنا جوعا شديدا ، فألقى لنا البحر حوتا ، لم نر مثله ، يقال له العنبر ، فأكلنا منه نصف شهر ، وأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه ، فكان يمر الراكب تحته .

                                                                                                                        39756 - قال أبو عمر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل السرايا والعساكر إلى أرض العدو ، وتلك سنة مسنونة مجتمع عليها ، لا تحتاج إلى استدلال ولا استنباط .

                                                                                                                        39757 - من أخبار الآحاد في هذا الحديث ما يدل على أن المسلمين إذا نزلت بهم ضرورة يخاف منها تلف النفوس ، ويرجى بالمواساة بقاؤها حينا انتظار الفرج ، [ ص: 313 ] فواجب حينئذ المواساة ، وأن يشارك المرء رفيقه وجاره فيما بيده من القوت .

                                                                                                                        39758 - ألا ترى إلى حديث الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ، فقال : " اجمعوا أزوادكم " . قال : فجعل الرجل يجيء بالحفنة من التمر ، والحفنة من السويق ، وطرحوا الأنطعة والأكسية ، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده ، ثم قال : " كلوا " . فأكلنا وشبعنا ، وأخذنا في مزاودنا ، فقال : " أشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، من قالها غير شاك دخل الجنة " .

                                                                                                                        39759 - وقد ذكرنا إسناده في " التمهيد " .

                                                                                                                        39760 - وقال بعض العلماء : جمع الأزواد في السفر سنة ، وأن يخرج القوم إذا خرجوا في سفر بنفقتهم جميعا ، فإن ذلك أطيب لنفوسهم ، وأحسن لأخلاقهم ، وأحرى أن يبارك لهم .

                                                                                                                        39761 - قال أبو عمر : فجمع أبي عبيدة لأزواد الجيش الذي كان أميرا عليه ، مأخوذ من السنة المذكورة في حديث أبي هريرة وغيره .

                                                                                                                        39762 - وقد استدل بعض الفقهاء بحديث أبي هريرة هذا ، وفعل أبي عبيدة [ ص: 314 ] في الأمر بإخراج الأزواد ، وجمعها ، والمواساة على التساوي فيها ، فإنه جائز للإمام عند قلة الطعام ، وارتفاع السعر ، وعدم القوت أن يأمر من عنده طعام يفضل عن قوته بإخراجه للبيع ، ورأى أن إجباره على ذلك من الواجب لما فيه من توفيق الناس ، وصلاح حالهم ، وإحيائهم والإبقاء عليهم .

                                                                                                                        39763 - وقد كان عمر بن الخطاب - رحمه الله - يجعل مع كل أهل بيت مثل عددهم عام الرمادة ، ويقول ، لن يهلك امرؤ عن نصف قوته .

                                                                                                                        39764 - وهذا كله في معنى الأزواد الذي أتت السنة به لما فيه من مصلحة العامة ، وإدخال الرفق عليهم .

                                                                                                                        39765 - وقد قال مالك : لا يجوز احتكار الطعام في سواحل المسلمين لأن ذلك يضر بهم ، ويزيد في غلاء سعرهم ، ومن أضر بالناس حيل بينه وبين ذلك .

                                                                                                                        39766 - وقال أيضا : لا يخرج الطعام من سوق بلد إلى غيره ، إذا كان ذلك يضر بأهله ، فإن لم يضر بهم ، فلا بأس أن يشتريه كل من احتاج إليه .

                                                                                                                        39766 - وهذا كله من قوله خلاف قوله : لا يجبر الناس على إخراج الطعام في الغلاء ، ولا يجوز التسعير على أهل الأسواق ، وذلك ظلم ، ولكن من انحط من السعر ، قيل له : ألحق ، وإلا فاخرج .

                                                                                                                        39768 - وقد أوضحنا هذه المعاني في كتاب البيوع .

                                                                                                                        [ ص: 315 ] 39769 - وفي هذا الحديث جواز أكل دواب البحر ، ميتة وغير ميتة ، بخلاف قول الكوفيين ، أنه لا يجوز أكل شيء من دواب البحر إلا السمك ، ما لم يكن طافيا ، فإن كان السمك طافيا ، لم يؤكل أيضا .

                                                                                                                        39770 - وهذه المسألة قد أوضحناها في كتاب الطهارة ، عند قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته " ، وفي كتاب الصيد أيضا ، فلا معنى لإعادتها .

                                                                                                                        39771 - وقد احتج بهذا الحديث من أجاز أكل لحم الصيد إذا أنتن ، وكذلك كل ما ذكي لأنه معلوم أن الحوت والميتة كلها إذا بقيت أياما أنتنت ، وقد أكل أبو عبيدة وأصحابه من ذلك الحوت ثماني عشرة ليلة ، فلا شك أنهم كانوا يأكلونه بعد أن أصل وأنتن ، والذكي لا يضره نتنه من جهة الحرام وأنه كره لرائحته .

                                                                                                                        39772 - وقال جماعة من أهل العلم : لا يؤكل إذا أنتن لأنه حينئذ من الخبائث ، ورجس من الأرجاس وإن كان مذكى .

                                                                                                                        39773 - واحتجوا بحديث أبي ثعلبة الخشني ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك .

                                                                                                                        39774 - حدثناه سعيد بن سيد قال : حدثني عبد الله بن محمد بن علي قال : حدثني محمد بن عبد الملك بن أيمن .

                                                                                                                        39775 - وحدثني عبد الوارث بن سفيان قال : حدثني قاسم بن أصبغ قال : [ ص: 316 ] حدثني ابن وضاح قال : حدثني موسى بن معاوية قال : حدثني معن بن عيسى ، عن معاوية بن صالح ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلوا الصيد وإن وجدتموه بعد ثلاث ، ما لم ينتن " .

                                                                                                                        39776 - وذكروا أن جيش أبي عبيدة كانوا جياعا مضطرين ، تحل لهم الميتة ، فلذلك أكلوا ذلك الحوت .

                                                                                                                        39777 - وقد أتينا بما عورضوا به في كتاب الطهارة ، وأتينا بما للعلماء في أكل الصيد إذا بات عن صائده ، أو غاب عنه مصرعه في كتاب الصيد ، والحمد لله كثيرا .




                                                                                                                        الخدمات العلمية