الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فضيلة الجهاد وأوصاف المجاهدين

وقال تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن [التوبة : 111] .

فيه دليل على أن الأمر بالجهاد موجود في جميع الشرائع ، ومكتوب على جميع أهل الملل ، وكل أمة وعدت عليه بالجنة .

وقيل : المعنى : وعدا مذكورا ، كائنا في التوراة . وعلى هذا يكون الوعد بالجنة لهذه الأمة مذكورا في كتب الله المنزلة .

ومن أوفى بعهده من الله فيه تأكيد الترغيب للمجاهدين في الجهاد ، والتنشيط لهم على بذل الأنفس والأموال ما لا يخفى .

فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به فيه دليل على سنية بيعة الجهاد على يد إمام من أئمة الدين ، وخليفة من خلفاء المسلمين .

[ ص: 92 ] وذلك ; أي : الجنة ، أو نفس البيعة التي ربحوا فيها الجنة ، هو الفوز العظيم ; أي : الظفر بالمطلوب .

التائبون [التوبة : 112]; أي : هم التائبون ، يعني : المؤمنين ، والتائب : الراجع إلى طاعة الله عن الحالة المخالفة للطاعةالعابدون ; أي : القائمون بما أمروا به من عبادة الله مع الإخلاص الحامدون ; أي : الذين يحمدون الله على كل حال في السراء والضراء ، ويقومون بشكره على جميع نعمه في الدنيا والآخرة السائحون السياحة في اللغة أصلها : الذهاب على وجه الأرض ، وهي مما يعين العبد على الطاعة; لانقطاعه عن الخلق ، ولما يحصل له من الاعتبار بالتفكر في مخلوقات الله سبحانه .

فالسياحة لها أثر عظيم في تهذيب النفس ، وتحسين أخلاقها . وقيل : السائح : الصائم ، وإليه ذهب جمهور المفسرين ، وبه قال ابن مسعود . وقيل : السائحون : هم الغزاة والمجاهدون . وقال عبد الرحمن بن زيد : هم المهاجرون . وقال عكرمة : هم الذين يسافرون لطلب الحديث .

وقيل : هم الحائرون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته وما خلق من العبر ، وقيل : هم طلبة العلم مطلقا ، المتنقلون من بلد إلى بلد في تحصيله واكتسابه ، يسبحون في الأرض ، ويطلبونه من مظانه .

ويدخل فيه طالب علم الكتاب والسنة دخولا أوليا .

وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم في ثلاثة : 1- القرآن 2- والحديث 3- والمواريث . قال : وما سوى ذلك زيادة .

الراكعون الساجدون ، أي : المصلون المحافظون على الصلوات . وعبر عنها بهما; لأنها معظم أركانه ، وبهما يمتاز المصلي من غيره ، بخلاف [ ص: 93 ] غيرهما; كالقيام والقعود; لأنهما حالتا المصلي وغيره .

الآمرون بالمعروف ; أي : القائمون بأمر الناس بما هو معروف في الشريعة الحقة ، والناهون عن المنكر ، أي : القائمون بالإنكار على من فعل شيئا ينكره الشرع الشريف .

والمراد : جنس الأمر ، والنهي ، فيدخل فيه كل معروف ، مثل : اتباع القرآن والحديث ، وترك الابتداع والتقليد .

فإن الأول معروف ، والثاني منكر بنص الكتاب والسنة .

والحافظون لحدود الله أي : القائمون بحفظ شرائعه التي أنزلها في كتابه وعلى لسان رسوله .

وهذا شأن المحدثين خاصة; فإنهم قاموا بذلك في كل عصر وقطر .

وأما غيرهم فإنه مضيع لها بإيثار الآراء على الروايات ، وتقديم المجتهدات على الآيات البينات .

وقيل : المراد : طاعة الله . وقال الحسن : فرائض الله ، وهم أهل الوفاء بالبيعة .

وقيل : حدوده : أوامره ونواهيه ، أو معالم الشرع . وبشر المؤمنين الموصوفين بالصفات السابقة بالجنة .

قال ابن عباس : من مات على هذه التسع ، فهو في سبيل الله ، ومن مات وفيه تسع فهو شهيد .

والإظهار في مقام الإضمار للتنبيه على علة الحكم; أي : سبب استحقاقهم الجنة هو إيمانهم ، وحذف المبشر به; لخروجه عن حد البيان .

والستة الأولى من هذه التسع تتعلق بمعاملة الخالق ، والسابع والثامن يتعلقان بمعاملة المخلوق ، والتاسع يعم القبيلتين . قاله الحفناوي .

وأتى بترتيب هذه الصفات في الذكر على أحسن نظم ، وهو ظاهر بالتأمل بأنه [ ص: 94 ] قدم التوبة أولا ، ثم ثنى بالعباد) إلى آخرها .

وقال تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم [هود : 23]; أي : أنابوا إليه وسكنوا . وقيل : خشعوا . وقيل : خضعوا . وقيل : خافوا . وقيل : اطمأنوا ، والمعاني متقاربة ، وهذه إشارة إلى أعمال القلوب .

أولئك الموصوفون بتلك الصفات الصالحة أصحاب الجنة هم فيها خالدون لا انقطاع لنعيمها ، ولا زوال لأهلها .

وقال تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن [النحل : 97] جعل الإيمان قيدا في الجزاء المذكور ، لأن عمل الكافر لا اعتداد به; لقوله : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا (الفرقان : 23] .

فلنحيينه حياة طيبة ; قيل : المراد بها : الرزق الحلال في هذه الحياة الدنيا ، وإذا صار إلى ربه جازاه بأحسن ما كان يعمل .

وقيل : التوفيق إلى الطاعة . وقيل : هي حياة الجنة . وقيل : هي السعادة .

وقيل : هي المعرفة بالله . وقيل : هي حلاوة الطاعة . وقيل : هي العيش في الطاعة . وقيل : رزق يوم بيوم .

وقيل : إنما هي تحصل في القبر; لأن المؤمن يستريح بالموت من نكد الدنيا وتعبها .

وقيل : هي أن ينزع عن العبد تدبير نفسه ، ويرد تدبيره إلى الحق . وقيل : هي الاستغناء عن الخلق ، والافتقار إلى الحق .

وأكثر المفسرين على أن هذا الحياة في الدنيا ، لا في الآخرة; لأن حياة الآخرة قد ذكرت بقوله : ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ، ولا مانع من حمل الآية الشريفة على جميع هذه المعاني .

وفيها : أن العمل الصالح صنيع المؤمن ، وله من الجزاء الحسن ما ذكر .

[ ص: 95 ] وقال تعالى : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون [المؤمنون : 57] الإشفاق : الخوف .

والمعنى : خائفون من عذاب ربهم ، ولو من غير فعل خطيئة ، وقيل : دائمون على طاعته .

والذين هم بآيات ربهم يؤمنون [المؤمنون : 58]; أي الآيات التنزيلية .

وقيل : هي التكوينية .

وقيل : مجموعهما ، وهو الأولى; لأن الاعتبار بعموم اللفظ .

وقيل : ليس المراد بالإيمان بها هو التصديق بوجودها فقط; فإن ذلك معلوم بالضرورة ، ولا يوجب المدح ، بل المراد : التصديق بكونها دلائل ، وأن مدلولها حق .

والذين هم بربهم لا يشركون [المؤمنون : 59] معه غيره; أي : يوحدون الله بأسمائه العليا ، وصفاته الحسنى ، ويتركون الشرك الجلي والخفي تركا كليا ظاهرا وباطنا .

والذين يؤتون ما آتوا [المؤمنون : 60]; أي : يعطون ما أعطوا وقلوبهم وجلة خائفة أشد الخوف من أجل ذلك الإعطاء ، يظنون أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله ، أنهم إلى ربهم راجعون .

سبب الوجل هو أن يخافوا ألا يقبل منهم ذلك على الوجه المطلوب ، لا مجرد رجوعهم إليه سبحانه .

وعن عائشة - رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله! قول الله : والذين يؤتون ما آتوا إلخ؟ أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر ، وهو مع ذلك يخاف الله؟ قال : «لا ، ولكن الرجل يصوم ويتصدق ، ويصلي ، وهو مع ذلك يخاف الله ألا يتقبل منه» أخرجه الترمذي ، وابن ماجه ، والحاكم وصححه ، وغيرهم .

أولئك ; أي : المتصفون بهذه الصفات يسارعون في الخيرات ; أي :

[ ص: 96 ] يبادرون بها ، ويرغبون فيها أشد الرغبة . وقيل : ينافسون فيها . وقيل : يسابقون ، وهم لها سابقون [المؤمنون : 61] قال ابن عباس : أي : سبقت لهم السعادة من الله .

وقال تعالى : إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله [النور : 51]; أي : إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا هذا القول لا قولا آخر .

وهذا وإن كان على طريقة الخبر ، فليس المراد به ذلك ، بل المراد به تعليم الأدب الشرعي عند هذه الدعوة من أحد المتخاصمين للآخر . وهذه الآية على إيجازها حاوية لكل ما ينبغي للمؤمنين أن يفعلوه .

وأولئك هم المفلحون ; أي : الناجون الفائزون بخيري الدنيا والآخرة . وفيه : أن قبول هذه الدعوة من الإيمان وأمارته . وفيه فلاحهم ، وأن من لم يقبل هذه الدعوة ، وجمد على التقليد ، وتحكيم الغير ، فليس بمفلح ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه [النور : 52] هذه الجملة مقررة لما قبلها من حسن حال المؤمنين ، وترغيب من عداهم إلى الدخول في عدادهم ، والمتابعة لهم في طاعة الله ورسوله ، في كتابه وسنته ، والخشية من الله فيما مضى ، والتقوى له فيما يستقبل .

فأولئك هم الفائزون بالنعيم الدنيوي والأخروي ، لا من عداهم . وعن بعض الملوك : أنه سأل عن آية كافية ، فتليت له هذه الآية . وهي جامعة لأسباب الفوز والفلاح الكاملة الشاملة لجميع أنواع الخير والصلاح .

فإنه ليس وراء الكتاب العزيز والسنة المطهرة شيء ، والمتمسك بهما على الوجه المطلوب فائز بكل نعمة ، وكل الصيد في جوف الفراء .

التالي السابق


الخدمات العلمية