الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة : قوله تعالى { أن يطوف بهما }

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 70 ] وهي معارضة الآية ، وروى ابن شهاب عن { عروة قلت لعائشة رضي الله عنها : أرأيت قول الله تبارك وتعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } الآية فوالله ما على أحد جناح ألا يطوف بهما قالت عائشة رضي الله عنها : بئس ما قلت يا ابن أختي ، إنها لو كانت على ما تأولتها لكان فلا جناح عليه ألا يطوف بهما ، إنما كان هذا الحي من الأنصار قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدون عند المشلل ، فكان من أهل لمناة يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة ، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة ، فأنزل الله تعالى : { الصفا والمروة } ثم سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما } ، فليس ينبغي لأحد أن يدع الطواف بينهما .

                                                                                                                                                                                                              قال ابن شهاب : فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن ، فقال : إن هذا العلم ، أي ما سمعت به .

                                                                                                                                                                                                              تحقيق هذا الحديث وتفهيمه : اعلموا وفقكم الله تعالى أن قول القائل : لا جناح عليك أن تفعل ، إباحة للفعل ، وقوله : ( فلا جناح عليك ألا تفعل ) إباحة لترك الفعل ; فلما سمع عروة رضي الله عنه قول الله سبحانه : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } قال : هذا دليل على أن ترك الطواف جائز ، ثم رأى الشريعة مطبقة على أن الطواف لا رخصة في تركه ، فطلب الجمع بين هذين المتعارضين ، فقالت له عائشة رضي الله عنها : ليس قوله تعالى : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } دليلا على ترك الطواف ; إنما يكون دليلا على تركه لو كان : ( فلا جناح عليه ألا يطوف ) .

                                                                                                                                                                                                              فلم يأت هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف ، ولا فيه دليل عليه ، وإنما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان [ ص: 71 ] يتحرج منه في الجاهلية ، أو لمن كان يطوف به في الجاهلية قصدا للأصنام التي كانت فيه ; فأعلمهم الله تعالى أن الطواف ليس بمحظور إذا لم يقصد الطائف قصدا باطلا .

                                                                                                                                                                                                              فأدت الآية إباحة الطواف بينهما ، وسل سخيمة الحرج التي كانت في صدور المسلمين منها قبل الإسلام وبعده ، وقال الله تعالى : { الصفا والمروة من شعائر الله } أي من معالم الحج ومناسكه ومشروعاته ، لا من مواضع الكفر ، وموضوعاته ; فمن جاء البيت حاجا أو معتمرا فلا يجد في نفسه شيئا من الطواف بهما .

                                                                                                                                                                                                              وهم وتنبيه : [ قال الفراء ] : معنى قوله : ( لا جناح عليه ألا يطوف بهما ) معناه أن يطوف ، وحرف " لا " زائدة ، وهذا ضعيف من وجهين : أحدهما : أنا قد بينا في مواضع أنه يبعد أن تكون " لا " زائدة .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أنه لا لغوي ولا فقيه يعادل عائشة رضي الله عنها وقد قررتها غير زائدة ، وقد بينت معناها ، فلا رأي للفراء ولا غيره .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الخامسة : اختلف الناس في السعي بين الصفا والمروة : فقال الشافعي : إنه ركن ، وقال أبو حنيفة : ليس بركن .

                                                                                                                                                                                                              ومشهور مذهب مالك أنه ركن ، وفي العتبية : يجزئ تاركه الدم .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 72 ] ومعول من نفى وجوبه وركنيته أن الله تعالى إنما ذكره في رفع الحرج خاصة كما تقدم بيانه .

                                                                                                                                                                                                              ودليلنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا } . صححه الدارقطني ويعضده المعنى فإنه شعار لا يخلو عنه الحج والعمرة ، فكان ركنا كالطواف ، وما ذكروه من رفع الحرج أو تركه فقد تقدم القول فيه .

                                                                                                                                                                                                              المسألة السادسة : قوله تعالى : { ومن تطوع خيرا }

                                                                                                                                                                                                              تعلق به من ينفي ركنية السعي كأبي حنيفة وغيره قال : إن الله تعالى رفع الحرج عن تركه ، وقال تعالى بعد ذلك : ومن تطوع خيرا بفعله فإن الله يأجره .

                                                                                                                                                                                                              والتطوع هو ما يأتيه المرء من قبل نفسه ، وهذا ليس يصح ; لأنا قد بينا إلى أي معنى يعود رفع الجناح .

                                                                                                                                                                                                              وقوله تعالى : { ومن تطوع } إشارة إلى السعي واجب ، فمن تطوع بالزيادة عليه فإن الله تعالى يشكر ذلك له .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية