الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        فصل

                        ( الإشكال الأول ) : إن ما تقدم من الأدلة على كراهية الالتزامات التي يشق دوامها معارض بما دل على خلافه :

                        فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تورمت قدماه ، فيقال له : أو ليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فيقول : أفلا أكون عبدا شكورا ؟ ! .

                        ويظل اليوم الطويل في الحر الشديد صائما .

                        وكان صلى الله عليه وسلم يواصل الصيام ويبيت عند ربه يطعمه ويسقيه . . . . .

                        ونحو ذلك من اجتهاده في عبادة ربه . وفي رسول الله أسوة حسنة ، ونحن مأمورون بالتأسي .

                        [ ص: 399 ] فإن أبيتم هذا الدليل بسبب أنه صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بهذه القضية ـ ولذلك كان ربه يطعمه ويسقيه ـ وكان يطيق من العمل ما لا تطيقه أمته ؛ فما قولكم فيما ثبت من ذلك عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين العارفين بتلك الأدلة التي استدللتم بها على الكراهية :

                        حتى أن بعضهم قعد من رجليه من كثرة التبتل .

                        وصارت جبهة بعضهم كركبة البعير من كثرة السجود ؟

                        وجاء عن عثمان بن عفان رضي الله عنه : " أنه كان إذا صلى العشاء أوتر بركعة يقرأ فيها القرآن كله " .

                        وكم من رجل صلى الصبح بوضوء العشاء كذا كذا سنة ، وسرد الصيام كذا وكذا سنة ، وكانوا هم العارفين بالسنة ، لا يميلون عنها لحظة .

                        وروي عن ابن عمر وابن الزبير : أنهما كانا يواصلان الصيام .

                        وأجاز مالك ـ وهو إمام في الاقتداء ـ صيام الدهر ؛ يعني : إذا أفطر أيام العيد .

                        ومما يحكى عن أويس القرني أنه كان يقوم ليله حتى يصبح ، ويقول : " بلغني أن لله عبادا سجودا أبدا . . . " ؛ يريد أنه يتنفل بالصلاة ، فتارة يطول فيها القيام ، وتارة الركوع ، وتارة السجود .

                        وعن الأسود بن يزيد : أنه كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة حتى يخضر جسده ويصفر ، فكان علقمة يقول له : ويحك ! لم تعذب هذا الجسد ؟ فيقول : " إن الأمر جد ، إن الأمر جد " .

                        وعن أنس بن مالك : أن امرأة مسروق قالت : " كان يصلي حتى [ ص: 400 ] تورمت قدماه ، فربما جلست خلفه أبكي مما أراه يصنع بنفسه .

                        وعن الشعبي ؛ قال : " غشي على مسروق في يوم صائف وهو صائم ، فقالت له ابنته : أفطر ، قال : ما أردت بي ؟ قالت : الرفق ، قال : يا بنية ! إنما طلبت الرفق لتعبي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " .

                        وعن الربيع بن خثيم : أنه قال : " أتيت أويسا القرني ، فوجدته قد صلى الصبح وقعد ، فقلت : لا أشغله عن التسبيح ، فلما كان وقت الصلاة ؛ قام فصلى إلى الظهر ، فلما صلى الظهر ، صلى إلى العصر ، فلما صلى العصر ؛ قعد يذكر الله إلى المغرب ، فلما صلى المغرب ؛ صلى إلى العشاء ، فلما صلى العشاء ؛ صلى إلى الصبح ، فلما صلى الصبح ؛ جلس ، فأخذته عينه ، ثم انتبه ، فسمعته يقول : " اللهم إني أعوذ بك من عين نوامة ، وبطن لا تشبع " .

                        والآثار في هذا المعنى كثيرة عن الأولين ، وهي تدل على الأخذ بما هو شاق في الدوام ، ولم يعدهم أحد بذلك مخالفين للسنة ، بل عدوهم من السابقين ، جعلنا الله منهم .

                        وأيضا ؛ فإن النهي ليس عن العبادة المطلوبة ، بل هو عن الغلو فيها غلوا يدخل المشقة على العامل ، فإذا فرضنا من فقدت في حقه تلك العلة ؛ فلا ينتهض النهي في حقه ؛ كما إذا قال الشارع : لا يقضي القاضي وهو غضبان ، وكانت علة النهي تشويش الفكر عن استيفاء الحجج ؛ اطرد النهي مع كل مشوش ، وانتفى عند انتفائه ، حتى إنه منتف مع وجود الغضب اليسير الذي لا يمنع من استيفاء الحجج ، وهذا صحيح جار على الأصول .

                        [ ص: 401 ] وحال من فقدت في حقه العلة حال من يعمل بحكم غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة ؛ فإن الخوف سوط سائق ، والرجاء حاد قائد ، والمحبة سبيل حامل ، فالخائف إن وجد المشقة ؛ فالخوف مما هو أشق يحمله على الصبر ما هو أهون وإن كان العمل شاقا ، والراجي يعمل وإن وجد المشقة ؛ لأن رجاء الراحة التامة يحمله على الصبر على بعض التعب ، والمحب يعمل ببذل المجهود ؛ شوقا إلى المحبوب ، فيسهل عليه الصعب ، ويقرب عليه البعيد ، فيوهن القوى ، ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ولا قام بشكر النعمة ، ويعصر الأنفاس ولا يرى أنه قضى نهمته .

                        وإذا كان كذلك ؛ صح الجمع بين الأدلة ، وجاز الدخول في العمل التزاما مع الإيغال فيه : إما مطلقا ، وإما مع ظن انتفاء العلة ، وإن دخلت المشقة فيما بعد ؛ إذا صح مع العامل الدوام على العمل ، ويكون ذلك جاريا على مقتضى الأدلة وعمل السلف الصالح .

                        والجواب : أن ما تقدم من أدلة النهي صحيح صريح ، وما نقل عن الأولين يحتمل ثلاثة أوجه :

                        أحدها : أن يحمل [ على ] أنهم إنما عملوا على التوسط الذي هو مظنة الدوام ، فلم يلزموا أنفسهم بما لعله يدخل عليهم المشقة حتى يتركوا بسببه ما هو أولى ، أو يتركوا العمل ، أو يبغضوه لثقله على أنفسهم ، بل التزموا ما كان على النفوس سهلا في حقهم ، فإنما طلبوا اليسر لا العسر ، وهو الذي كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحال من تقدم النقل عنه من المتقدمين ؛ بناء على أنهم إنما عملوا بمحض السنة والطريقة العامة لجميع المكلفين ، وهذه طريقة الطبري في الجواب .

                        [ ص: 402 ] وما تقدم في السؤال مما يظهر منه خلاف ذلك ؛ فقضايا أحوال يمكن حملها على وجه صحيح إذا ثبت أن العامل ممن يقتدى به .

                        ( والثاني ) : يحتمل أن يكونوا عملوا على المبالغة فيما استطاعوا ، لكن لا على جهة الالتزام ، لا بنذر ولا غيره .

                        وقد يدخل الإنسان في أعمال يشق الدوام عليها ولا يشق في الحال ، فيغتنم نشاطه في حالة خاصة ؛ غير ناظر فيها فيما يأتي ، ويكون جاريا فيه على أصل رفع الحرج ، حتى إذا لم يستطعه ؛ تركه ، ولا حرج عليه ؛ لأن المندوب لا حرج في تركه في الجملة .

                        ويشعر بهذا المعنى ما في هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها ؛ قالت : كان رسول الله يصوم حتى نقول : لا يفطر ، ويفطر حتى نقول : لا يصوم ، وما رأيته استكمل صيام شهر قط إلا رمضان . . . ، الحديث .

                        فتأملوا وجه اعتبار النشاط ، والفراغ من الحقوق المتعلقة ، أو القوة في الأعمال .

                        وكذلك قول عبد الله بن عمرو في صيام يوم وإفطار يوم : " ليتني طوقت ذلك " ؛ إنما يريد المداومة ؛ لأنه قد كان يوالي الصيام حتى يقولوا لا يفطر .

                        ولا يعترض [ على ] هذا المأخذ بقوله عليه السلام : أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قل ، وأنـ [ ـه ] كان عمله دائما ؛ لأنه [ ص: 403 ] محمول على العمل الذي يشق فيه الدوام .

                        وأما ما نقل عنهم إدامة صلاة الصبح بوضوء العشاء وقيام جميع الليل ، وصيام الدهر . . . ونحوه ؛ فيحتمل أن يكون على الشرط المذكور ، وهو أن لا يلتزم ذلك ، وإنما يدخل في العمل حالا يغتنم نشاطه ، فإذا أتى زمان آخر وجد فيه النشاط أيضا وإذا لم يخل بما هو أولى ؛ عمل كذلك ، فيتفق أن يدوم له هذا النشاط زمانا طويلا ، وفي كل حالة هو في فسحة الترك ، لكنه ينتهز الفرصة مع الأوقات ، فلا بعد في أن يصحبه النشاط إلى آخر العمر ، فيظنه الظان التزاما وليس بالتزام .

                        وهذا صحيح ، ولا سيما مع سائق الخوف أو حادي الرجاء أو حامل المحبة ، وهو معنى قوله عليه السلام : وجعلت قرة عيني في الصلاة ، فلذلك قام عليه السلام حتى تورمت قدماه ، وامتثل أمر ربه في قوله تعالى قم الليل إلا قليلا ، الآية .

                        ( والثالث ) : أن دخول المشقة وعدمه على المكلف في الدوام أو غيره ليس أمرا منضبطا ، بل هو إضافي مختلف بحسب اختلاف الناس في قوة أجسامهم ، أو في قوة عزائمهم ، أو في قوة يقينهم . . . . أو نحو ذلك من أوصاف أجسامهم وأنفاسهم ، فقد يختلف العمل الواحد بالنسبة إلى رجلين ؛ لأن أحدهما أقوى جسما ، أو أقوى عزيمة ، أو يقينا بالموعد ، والمشقة قد تضعف بالنسبة إلى قوة هذه الأمور وأشباهها ، وتقوى مع [ ص: 404 ] ضعفها .

                        فنحن نقول : كل عمل يشق الدوام على مثله بالنسبة إلى زيد ؛ فهو منهي عنه ، ولا يشق على عمر ؛ فلا ينهى عنه .

                        فنحن نحمل ما داوم عليه الأولون من الأعمال على أنه لم يكن شاقا عليهم ، وإن كان ما هو أقل منه شاقا علينا ، فليس عمل مثلهم بما عملوا به حجة لنا أن ندخل فيما دخلوا فيه ؛ إلا بشرط أن يمتد مناط المسألة فيما بيننا وبينهم ، وهو أن يكون ذلك العمل لا يشق الدوام على مثله .

                        وليس كلامنا في هذا لمشاهدة الجميع ، فإن التوسط والأخذ بالرفق هو ( الأولى ) والأحرى بالجميع ، وهو الذي دلت عليه الأدلة ؛ دون الإيغال الذي لا يسهل مثله على جميع الخلق ولا أكثرهم ؛ إلا على القليل النادر منهم .

                        والشاهد لصحة هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم : إني لست كهيئتكم ، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ؛ يريد عليه السلام : أنه لا يشق عليه الوصال ، ولا يمنعه عن قضاء حق الله وحقوق الخلق .

                        فعلى هذا ؛ من رزق أنموذجا مما أعطيه عليه السلام ، فصار يوغل في العمل مع قوته ونشاطه وخفة العمل عليه ؛ فلا حرج .

                        وأما رده عليه السلام على عبد الله بن عمرو ؛ فيمكن أن يكون شهد بأنه لا يطيق الدوام ، ولذلك وقع له ما كان متوقعا ، حتى قال : " ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

                        [ ص: 405 ] ويكون عمل ابن الزبير وابن عمر وغيرهما في الوصال جاريا على أنهم أعطوا حظا مما أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا بناء على أصل مذكور في كتاب الموافقات ، والحمد لله .

                        وإذا كان كذلك ؛ لم يكن في العمل المنقول عن السلف مخالفة لما سبق .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية