الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        فصل

                        ويتعلق بهذا الموضع مسائل :

                        إحداها : أن تحريم الحلال وما أشبه ذلك يتصور في أوجه :

                        ( الأول ) : التحريم الحقيقي ، وهو الواقع من الكفار ؛ كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ، وجميع ما ذكر الله تعالى تحريمه عن الكفار بالرأي المحض ، ومنه قوله تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ، وما أشبهه من التحريم [ ص: 425 ] الواقع في الإسلام رأيا مجردا .

                        ( الثاني ) : أن يكون مجرد ترك ، لا لغرض ، بل لأن النفس تكرهه بطبعها ، أو لا تكرهه حتى تستعمله ، أو لا تجد ثمنه ، أو تشتغل بما هو آكد . . . وما أشبه ذلك ، ومنه ترك النبي صلى الله عليه وسلم لأكل الضب ؛ لقوله فيه : إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه ، ولا يسمى مثل هذا تحريما ؛ لأن التحريم يستلزم القصد إليه ، وهذا ليس كذلك .

                        ( الثالث ) : أن يمتنع لنذره التحريم ، أو ما يجري مجرى النذر من العزيمة القاطعة للعذر ؛ كتحريم النوم على الفراش سنة ، وتحريم الضرع وتحريم الادخار لغد ، وتحريم اللين من الطعام واللباس ، وتحريم الوطء والاستلذاذ بالنساء في الجملة . . . وما أشبه ذلك .

                        ( الرابع ) : أن يحلف على بعض الحلال أن لا يفعله ، ومثله قد يسمى تحريما .

                        قال إسماعيل القاضي : " إذا قال الرجل لأمته : والله لا أقربك ؛ فقد حرمها على نفسه باليمين ، فإذا غشيها ، وجبت عليه كفارة اليمين " ، وأتى بمسألة ابن مقرن في سؤاله ابن مسعود ( رضي الله عنه ) ؛ إذ قال : " إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة . . . قال : فتلا عبد الله : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم الآية ، ( وقال له ) : كفر عن يمينك ، ونم على فراشك .

                        [ ص: 426 ] فأمره أن لا يحرم ما أحل الله له ، وأن يكفر من أجل اليمين .

                        فهذا الإطلاق يقتضي أنه نوع من التحريم ، وله وجه ظاهر ، فقد أشار إسماعيل إلى أن الرجل كان إذا حلف أن لا يفعل شيئا من الحلال ؛ لم يجز له أن يفعله ، حتى نزلت كفارة اليمين ، فلأجل ما كان قبل من التحريم ولما وردت الكفارة ؛ سمي تحريما ، ومن ثم ـ والله أعلم ـ سميت كفارة .

                        ( الثانية ) : أن الآية التي نحن بصددها ينظر فيها على أي معنى يطلق التحريم من تلك المعاني :

                        أما الأول : فلا مدخل له هاهنا ؛ لأن التحريم تشريع كالتحليل ، والتشريع ليس إلا لصاحب الشرع ، اللهم إلا أن يدخل مبتدع رأيا كان من أهل الجاهلية أو من أهل الإسلام ؛ فهذا أمر آخر يجل السلف الصالح عن مثله ، فضلا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخصوص .

                        وقد وقع للمهلب في شرح البخاري ما قد يشعر بأن المراد في الآية التحريم بالمعنى الأول ، فقال : " التحريم إنما هو لله ولرسوله ، فلا يحل لأحد أن يحرم شيئا ، وقد وبخ الله من فعل ذلك ، فقال : لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ، فجعل ذلك من الاعتداء ، وقال : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ؛ قال : فهذا كله حجة في أن تحريم الناس ليس بشيء .

                        وما قاله المهلب يرده السبب في نزول الآية ، وليس كما تقرر ، ولذلك [ ص: 427 ] لم يعد المحرم الحكم لغيره كما هو شأن التحريم بالمعنى الأول ، فصار مقصورا على المحرم دون غيره .

                        وأما التحريم بالمعنى الثاني ؛ فلا حرج فيه في الجملة ؛ لأن بواعث النفوس على الشيء أو صوارفها عنه لا تنضبط بقانون معلوم ، فقد يمتنع الإنسان من الحلال لأمر يجده في استعماله ، ككثير ممن يمتنع من شرب العسل لوجع يعتريه به ، حتى يحرمه على نفسه ، لا بمعنى التحريم الأول ، ولا الثالث ، بل بمعنى التوقي منه ؛ كما تتوقى سائر المؤلمات .

                        ويدخل هاهنا بالمعنى امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من أكل الثوم ؛ لأنه كان يناجي الملائكة ، وهي تتأذى من رائحتها ، وكذلك كل ما تكره رائحته .

                        ولعل هذا المحل أولى من قول من قال : إن الثوم ونحوه كانت محرمة عليه بالمعنى المختص بالشارع .

                        والمعنيان متقاربان ، وكلاهما غير داخل في معنى الآية .

                        وأما التحريم بالمعنى [ الثالث و ] الرابع ؛ فيحتمل أن يدخل في عبارة التحريم ، فيكون قوله ( تعالى ) : لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ، قد شمل التحريم بالنذر والتحريم باليمين ، والدليل على ذلك ذكر [ ص: 428 ] الكفارة بعدها بقوله تعالى : فكفارته إطعام عشرة مساكين . . . إلخ ، وما تقدم من أنه كان تحريما مجردا قبل نزول الكفارة ، وأن جماعة من المفسرين قالوا في قوله تعالى : ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك : إن التحريم كان باليمين حين حلف النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يشرب العسل ، وسيأتي ذكر ذلك بحول الله .

                        فإن قيل : هل يكون قول الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء . . . الحديث ؛ من قبيل التحريم الثاني لا من الثالث ؛ لأن الرجل قد يحرم الشيء للضرر الحاصل به ، وقد تقدم آنفا أنه ليس بتحريم في الحقيقة ، فكذلك هاهنا لا يريد بالتحريم النذر ، بل يريد به التوقي ، أي : إني أخاف على نفسي العنت ، وكان هذا المعنى ـ والله أعلم ـ هو مقصود الصحابي رضي الله عنه .

                        فالجواب : أن من يلحقه الضرر وقتما يتناول شيئا ؛ يمكنه أن يمسك عنه من غير تحريم ، والتارك لأمر لا يلزمه أن يكون محرما له ، فكم من رجل ترك الطعام الفلاني أو النكاح ؛ لأنه في [ ذلك ] الوقت لا يشتهيه ، أو لغير ذلك من الأعذار ، حتى إذا زال عذره ؛ تناول منه ، وقد ترك عليه السلام أكل الضب ، ولم يكن تركه موجبا لتحريمه .

                        والدليل على أن المراد بالتحريم الظاهر ، وأنه لا يصح وإن كان لعذر : أن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليه بالآية ، فلو كان وجود مثل تلك الأعذار مبيحا للتحريم بالمعنى الثالث ؛ لوقع التفصيل في الآية بالنسبة إلى من حرم لعذر [ ص: 429 ] أو غير عذر .

                        وأيضا ؛ فإن الانتشار للنساء ليس بمذموم ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من استطاع منكم الباءة فليتزوج . . . الحديث ، فإذا أحب الإنسان قضاء الشهوة ؛ تزوج فحصل له ما في الحديث ؛ زيادة إلى النسل المطلوب في الملة ، فكأن محرم ما يحصل به الانتشار ساع في التشبه بالرهبانية ، وكان ذلك منتفيا عن الإسلام كسائر ما ذكر في الآية .

                        ( والثالثة ) : أن هذه الآية يشكل معناها مع قوله تعالى : كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة الآية ؛ فإن الله أخبر عن نبي من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام أنه حرم على نفسه حلالا ، ففيه دليل لجواز مثله .

                        والجواب : أنه لا دليل في الآية ؛ لأن ما تقدم يقرر : أن لا تحريم في الإسلام ، فيبقى ما كان شرعا لغيرنا منفيا عن شرعنا ؛ كما تقرر في الأصول .

                        خرج القاضي إسماعيل وغيره عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : " أن إسرائيل النبي يعقوب عليه السلام أخذه عرق النسا ، فكان يبيت وعليه زق ، فجعل عليه إن شفاه الله ؛ ليحرمن العروق ، وذلك قبل نزول التوراة " .

                        قالوا : " فلذلك نسل اليهود لا يأكلونها " .

                        وفي رواية : " جعل على نفسه أن لا يأكل لحوم الإبل " ؛ قال : [ ص: 430 ] فحرمته اليهود .

                        وعن الكلبي : أن يعقوب عليه السلام قال : " إن الله شفاني لأحرمن أطيب الطعام والشراب ـ أو قال : ـ أحب الطعام أو الشراب إلي ، فحرم لحوم الإبل وألبانها "

                        قال القاضي : " الذي نحسب ـ والله أعلم ـ أن إسرائيل حين حرم على نفسه من الحلال ما حرم ؛ لم يكن في ذلك الوقت منهيا عن ذلك ، وأنهم كانوا إذا حرموا على أنفسهم شيئا من الحلال ؛ لم يجز لهم أن يفعلوه حتى نزلت كفارة اليمين ، قال الله تعالى : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ، والحالف إذا حلف على شيء ولم يقل : إن شاء الله ؛ كان بالخيار ، إن شاء فعل وكفر ، وإن شاء لم يفعل .

                        قال : " وهذه الأشياء وما أشبهها من الشرائع يكون فيها الناسخ والمنسوخ ، فكان الناسخ في هذا قوله ( تعالى ) :ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم .

                        قال : " فلما وقع النهي ؛ لم يجز للإنسان أن يقول : الطعام علي حرام . . . . وما أشبه ذلك من الحلال ، فإن قال إنسان شيئا من ذلك ؛ كان قوله باطلا ، وإن حلف على ذلك بالله ؛ كان له أن يأتي الذي هو خير ، ويكفر عن يمينه " .

                        [ ص: 431 ] ( الرابعة ) : أن نقول : مما يسأل عنه قوله تعالى : يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ، الآية ؛ فإن فيها إخبارا بأنه عليه الصلاة والسلام حرم على نفسه ما أحله الله ، وقد نزل عليه : لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ، ومثل هذا يجل ( مقام ) النبي صلى الله عليه وسلم عن مقتضى الظاهر فيه ، وأن يكون منهيا عنه ابتداء ثم يأتيه ، حتى يقال له فيه : لم تفعل ؟ فلا بد من النظر في هذه المصارف .

                        والجواب :

                        أن آية التحريم إن كانت هي السابقة على آية العقود ؛ فظاهر أنها مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم :

                        إذ لو أريد الأمة ـ على قول من قال من الأصوليين ـ ؛ لقال : لم تحرمون ما أحل الله لكم ؟ كما قال : ياأيها النبي إذا طلقتم النساء . . . ، الآية ، وهو بين ؛ لأن سورة التحريم قبل آية الأحزاب ، لذلك لما آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرا بسبب هذه القصة ؛ نزل عليه في سورة الأحزاب : ياأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن . . . . ، إلخ .

                        وأيضا فيحتمل التحريم بمعنى الحلف على أن لا يفعل ، والحلف إذا وقع ؛ فصاحبه مخير بين أن يترك المحلوف عليه وبين أن يفعله [ ص: 432 ] ويكفر ، وقد جاء في آية التحريم : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ، فدل على أنه كان يمينا حلف عليه السلام بها .

                        وذلك أن الناس اختلفوا في هذا التحريم :

                        فقال جماعة : إن [ ما ] كان تحريما لأم ولده مارية القبطية ؛ بناء على أن الآية نزلت في شأنها ، وممن قال به الحسن وقتادة و الشعبي و نافع مولى ابن عمر .

                        أو كان تحريما لعسل زينب ، وهو قول عطاء وعبد الله بن عتبة .

                        وقال جماعة : إنما كان تحريما بيمين .

                        قال إسماعيل بن إسحاق : " يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم حرمها ـ يعني : جاريته ـ بيمين الله ؛ لأن الرجل إذا قال لأمته : والله لا أقربك ؛ فقد حرمها على نفسه باليمين ، فإذا غشيها ؛ وجبت عليه كفارة اليمين " ، ثم أتى بمسألة ابن مقرن .

                        ويمكن أن يكون السبب شرب العسل ، وهو الذي وقع في البخاري من طريق هشام عن ابن جريج قال فيه : " شربت عسلا عند زينب بنت جحش ، فلن أعود له ، وقد حلفت ، فلا تخبري بذلك أحدا " ، وإذا كان كذلك ؛ فلم يبق في المسألة إشكال ، ولا فرق بين الجارية والعسل في الحكم ؛ لأن تحريم الجارية كيف ( ما ) كان بمنزلة تحريم ما يؤكل ويشرب .

                        وأما إن فرضنا أن آية العقود هي السابقة على آية التحريم ؛ [ ص: 433 ] فيحتمل وجهين كالأول :

                        ( أحدهما ) : أن يكون التحريم في سورة التحريم بمعنى الحلف .

                        ( والثاني ) : أن تكون آية العقود غير متناولة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأن قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا لا يدخل فيه ؛ بناء على قول من قال بذلك من الأصوليين ، وعند ذلك لا يبقى في القضية ما ينظر فيه ، ولا يكون للمحتج بالآية متعلق ، والله أعلم .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية