الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        فصل

                        ثبت بمضمون هذه الفصول المتقدمة آنفا أن الحرج منفي عن الدين جملة وتفصيلا ـ وإن كان قد ثبت أيضا في الأصول الفقهية على وجه من البرهان أبلغ ـ ؛ فلنبن عليه فنقول :

                        قد فهم قوم من السلف الصالح وأهل الانقطاع إلى الله ممن ثبت ولايتهم : أنهم كانوا يشددون على أنفسهم ، ويلزمون غيرهم الشدة أيضا والتزام الحرج ديدنا في سلوك طريق الآخرة ، وعدوا من لم يدخل تحت هذا الالتزام مقصرا مطرودا ومحروما ، وربما فهموا ذلك من بعض الإطلاقات الشرعية ، فرشحوا بذلك ما التزموه ، فأفضى الأمر بهم إلى الخروج عن السنة إلى البدعة الحقيقية أو الإضافية .

                        فمن ذلك أن يكون للمكلف طريقان في سلوكه للآخرة : أحدهما سهل ، والآخر صعب ، وكلاهما في التوصل إلى المطلوب على حد واحد ، [ ص: 441 ] فيأخذ بعض المتشددين بالطريق الأصعب الذي يشق على المكلف مثله ، ويترك الطريق الأسهل ؛ بناء على التشديد على النفس .

                        كالذي يجد للطهارة ماءين : سخنا وباردا فيتحرى البارد الشاق استعماله ، ويترك الآخر ، فهذا لم يعط النفس حقها الذي طلبه الشارع منه ، وخالف دليل رفع الحرج من غير معنى زائد ، فالشارع لم يرض بشرعية مثله ، وقد قال ( الله ) تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ، فصار متبعا لهواه .

                        ولا حجة له في قوله عليه الصلاة والسلام : ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء عند الكريهات . . . الحديث ؛ من حيث كان الإسباغ مع كراهية النفس سببا لمحو الخطايا ورفع الدرجات ، ففيه دليل على أن للإنسان أن يسعى في تحصيل هذا الأجر بإكراه النفس ، ولا يكون إلا بتحري إدخال الكراهية عليها ؛ لأنا نقول : لا دليل في الحديث على ما قلتم ، وإنما فيه أن الإسباغ مع وجود الكراهية ، ففيه أمر زائد ؛ كالرجل يجد ماء باردا في زمان الشتاء ولا يجده سخنا فلا يمنعه شدة برده عن كمال الإسباغ ، وأما القصد إلى الكراهية ؛ فليس في الحديث ما يقتضيه ، بل في الأدلة المتقدمة ما يدل على أنه مرفوع عن العباد ، ولو سلم أن الحديث يقتضيه ؛ لكانت أدلة رفع الحرج تعارضه ، وهي قطعية ، وخبر الواحد ظني ، فلا تعارض بينهما ؛ للاتفاق على تقديم القطعي .

                        [ ص: 442 ] ومثل الحديث قول الله تعالى : ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة . . . ، الآية .

                        ومن ذلك الاقتصار من المأكول على أخشنه وأفظعه لمجرد التشديد لا لغرض سواه ، فهو من النمط المذكور فوقه ؛ لأن الشرع لم يقصد إلى تعذيب النفس في التكليف ، وهو أيضا مخالف لقوله عليه الصلاة والسلام : إن لنفسك عليك حقا ؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم : يأكل الطيب إذا وجده ، وكان يحب الحلواء والعسل ، ويعجبه لحم الذراع ، ويستعذب له الماء ، فأين التشديد من هذا ؟ .

                        ولا يدخل الاستعمال المباح في قوله تعالى : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ، لأن المراد به الإسراف الخارج عن حد المباح ؛ بدليل ما تقدم .

                        فإذا ؛ الاقتصار على البشيع في المأكل من غير عذر تنطع ، وقد مر ما فيه قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم الآية .

                        ومن ذلك الاقتصار في الملبس على الخشن من غير ضرورة ؛ فإنه من قبيل التشديد والتنطع المذموم ، وفيه أيضا من قصد الشهرة ما فيه .

                        وقد روي عن الربيع بن زياد الحارثي : " أنه قال لعلي بن أبي طالب [ ص: 443 ] رضي الله عنه : اغد بي على أخي عاصم ، قال : ما باله ؟ قال : لبس العباء يريد النسك ، فقال علي رضي الله عنه : علي به .

                        فأتي به مؤتزرا بعباءة ، مرتديا بالأخرى ، شعث الرأس واللحية ، فعبس في وجهه ، وقال : ويحك ! أما استحييت من أهلك ؟ أما رحمت ولدك ؟ أترى الله أباح لك الطيبات وهو يكره أن تنال منها شيئا ؟ بل أنت أهون على الله من ذلك ، أما سمعت الله يقول في كتابه : والأرض وضعها للأنام . . . . إلى قوله : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ؟ ، أفترى الله أباح هذه لعباده إلا ليبتذلوه ويحمدوا الله عليه ، فيثبتهم عليه ؟ وإن ابتذالك نعم الله بالفعل خير منه بالقول .

                        قال عاصم : فما بالك في خشونة مأكلك وخشونة ملبسك ، قال : ويحك ! إن الله فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس .

                        فتأملوا كيف لم يطالب الله العباد بترك الملذوذات ! وإنما طالبهم بالشكر عليها إذا تناولوها ، فالمتحري للامتناع من تناول ما أباحه الله من غير موجب شرعي مفتات على الشارع .

                        وكل ما جاء عن المتقدمين من الامتناع عن بعض المتناولات من هذه الجهة ، وإنما امتنعوا منه لعارض شرعي يشهد الدليل باعتباره ؛ كالامتناع من التوسع لضيق الحال في يده ، أو لأن المتناول ذريعة إلى ما يكره أو يمنع ، أو لأن في المتناول وجه شبهة تفطن إليه التارك ولم يتفطن إليه غيره ممن علم بامتناعه ، وقضايا الأحوال لا تعارض الأدلة بمجردها ؛ [ ص: 444 ] لاحتمالها في أنفسها .

                        وهذه المسألة مذكورة على وجهها في كتاب الموافقات .

                        ومن ذلك الاقتصار في الأفعال والأحوال على ما يخالف محبة النفوس وحملها على ذلك في كل شيء ؛ من غير استثناء .

                        فهو من قبيل التشديد ، ألا ترى أن الشارع أباح أشياء مما فيه قضاء نهمة النفس وتمتعها واستلذاذها ؟ فلو كانت مخالفتها برا ؛ لشرع ، ولندب الناس إلى تركه ، فلم يكن مباحا ، بل مندوب الترك أو مكروه الفعل .

                        وأيضا ؛ فإن الله تعالى وضع في الأمور المتناولة إيجابا أو ندبا أشياء من المستلذات الحاملة على تناول تلك الأمور ؛ لتكون تلك اللذات كالحادي إلى القيام بتلك الأمور ؛ كما جعل في الأوامر إذا امتثلت وفي النواهي إذا اجتنبت أجورا منتظرة ، ولو شاء لم يفعل ، وجعل في الأوامر إذا تركت والنواهي إذا ارتكبت جزاء على خلاف الأول ؛ ليكون جميع ذلك منهضا لعزائم المكلفين في الامتثال ، حتى إنه وضع لأهل الامتثال المثابرين على المبايعة في أنفس التكاليف أنواعا من اللذات العاجلة والأنوار الشارحة للصدور ما لا يعدله من لذات الدنيا شيء ، حتى يكون سببا لاستلذاذ الطاعة والفرار إليها وتفضيلها على غيرها ، فيخف على العامل العمل ، حتى يتحمل منه ما لم يكن قادرا قبل ( على ) تحمله إلا بالمشقة المنهي عنها ، فإذا سقطت ؛ سقط النهي .

                        بل تأملوا كيف وضع للأطعمة على اختلافها لذات مختلفات الألوان ، وللأشربة كذلك ، وللوقاع الموضوع سببا لاكتساب العيال ـ وهو [ ص: 445 ] أشد تعبا عن النفس ـ لذة أعلى من لذة المطعم والمشرب . . . . إلى غير ذلك من الأمور الخارجية عن نفس المتناول ؛ كوضع القبول في الأرض ، وترفيع المنازل ، والتقدم على سائر الناس في الأمور العظائم ، وهي أيضا تقتضي لذات تستصغر جنبها لذات الدنيا .

                        وإذا كان كذلك ؛ فأين هذا الموضوع الكريم من الرب اللطيف الخبير ؟ !

                        فمن يأتي متعبدا ـ بزعمه ـ بخلاف ما وضع الشارع له من الرفق والتيسير والأسباب الموصلة إلى محبته ، فيأخذ بالأشق والأصعب ، ويجعله هو السلم الموصل والطريق الأخص ؛ هل هذا كله إلا غاية في الجهالة ، وتلف في تيه الضلالة ؟ عافانا الله من ذلك بفضله .

                        فإذا سمعتم بحكاية تقتضي تشديدا على هذا السبيل ، أو يظهر منها تنطع أو تكلف ؛ فإما أن يكون صاحبها ممن يعتبر ؛ كالسلف الصالح ، أو من غيرهم ممن لا يعرف ولا ثبت اعتباره عند أهل الحل والعقد من العلماء ، فإن كان الأول ؛ فلا بد أن يكون على خلاف ما ظهر لبادي الرأي ـ كما تقدم ـ ؛ وإن كان الثاني ؛ فلا حجة فيه ، وإنما الحجة في المقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم .

                        فهذه خمسة في التشديد في سلوك طريق الآخرة يقاس عليها ما سواها .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية