الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 236 ] 6 - باب: إذا قال: فارقتك أو سرحتك أو الخلية أو البرية أو ما عني به الطلاق، فهو على نيته

                                                                                                                                                                                                                              وقول الله -عز وجل-: وسرحوهن سراحا جميلا [الأحزاب: 49] وقال: وأسرحكن سراحا جميلا [الأحزاب: 28] ، وقال: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان [البقرة: 229] وقال: أو فارقوهن بمعروف [الطلاق: 2].

                                                                                                                                                                                                                              وقالت عائشة قد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه. [فتح: 9 \ 369].

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              هذا التعليق تقدم عنده مسندا، واختلف قول مالك فيمن قال لامرأته: قد فارقتك، أو سرحتك، أو خليت سبيلك. فروى عيسى عن ابن القاسم أنها كلها ثلاث في التي بني بها، إلا أن ينوي أقل فله نيته ويحلف، وفي التي لم يبن بها حتى ينوي أقل .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن المواز: وأصح قوليه في ذلك في التي لم يبن بها واحدة، إلا أن يريد أكثر.

                                                                                                                                                                                                                              وقاله ابن القاسم وابن عبد الحكم .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو يوسف في قوله: فارقتك، أو خلعتك، أو خليت سبيلك، أو لا ملك لي عليك: إنها ثلاثا ثلاثا .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 237 ] واختلفوا في الخلية والبرية والبائن، فروي عن علي أنها ثلاث، وبه قال الحسن البصري ، وروي عن (ابن عمر) في الخلية والبرية والبتة: هي ثلاث . وعن زيد بن ثابت في البرية: ثلاث.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن أبي ليلى في الخلية والبرية والبائن: ثلاث في المدخول بها . وقال مالك أيضا كذلك ، قال (زيد بن أرقم) في التي لم يدخل بها: تطليقة واحدة أراد أم ثلاثا؟ فإن قال: واحدة كان خاطبا من الخطاب، وقاله ربيعة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الثوري وأبو حنيفة نيته في ذلك، فإن نوى ثلاثا أو واحدة فواحدة بائنة، وهي أحق بنفسها، وإن نوى ثنتين فهي واحدة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الشافعي: هو في ذلك كله غير مطلق حتى يقول: أردت بمخرج الكلام مني طلاقا فيكون ما نواه، فإن نوى دون الثلاث كان رجعيا، ولو طلقها واحدة بائنة كانت رجعية .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 238 ] وقال إسحاق: هو إلى نيته يدين . وقال أبو ثور: هي تطليقة رجعية، ولا يسأل عن نيته في ذلك . ويشبه أن تكون كما قال ابن بطال: أن يكون البخاري أشار إلى قول الكوفيين والشافعي وإسحاق في قوله: أو ما عني به الطلاق فهو على نيته.

                                                                                                                                                                                                                              والحجة في ذلك أن كل كلمة تحتمل أن تكون طلاقا وغير طلاق، فلا يجوز أن يلزم بها الطلاق، إلا أن يقر المتكلم أنه أراد بها الطلاق، فيلزمه ذلك بإقراره، ولا يجوز إبطال النكاح; لأنهم قد أجمعوا على صحته بيقين.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (برئت مني، أو برئت منك). هو من البرية، وكان بعض أصحاب مالك يرى المباراة من البرية، ويجعلها ثلاثا وتحصيل (مذهب) [مالك] أن المباراة من باب الصلح والفدية والخلع، وذلك كله واحدة عندهم بائنة .

                                                                                                                                                                                                                              والحجة لمالك في قوله: فارقتك، وسرحتك، وخلية، وبرية، وبائن، أنها ثلاث في المدخول بها، أن هذه الألفاظ في لغة العرب مستعملة في عرفهم للإبانة وقطع العصمة كالثلاث، بل هذه الألفاظ أشهر عندهم وأكثر استعمالا من قولهم: أنت طالق.

                                                                                                                                                                                                                              ولم يرد الشرع بخلافها، وإنما ورد أن يفرق عدد الطلاق، فإن ترك ذلك وأوقع الأصل وقع ، ولا يسلم لهم ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 239 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قول عائشة السالف فيه حجة لمن قال: إنه إذا خير الرجل امرأته أو ملكها، أن لها أن تقضي في ذلك وإن افترقا من مجلسهما. روي هذا عن الحسن والزهري، وقاله مالك. وروي عن مالك أيضا أن لها أن تقضي ما لم يوقعها السلطان.

                                                                                                                                                                                                                              وكان قول مالك الأول أن اختيارها على المجلس، وهو اختيار ابن القاسم، وهو قول الكوفيين والثوري والأوزاعي والليث والشافعي وأبي ثور.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عبيد: والذي عندنا في هذا اتباع السنة في عائشة - رضي الله عنها - في هذا الحديث، حين جعل لها التأخير إلى أن تستأمر أبويها، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجا من الأمر.

                                                                                                                                                                                                                              وقال المروزي : هذا أصح الأقاويل عندي، وقاله ابن المنذر والطحاوي ، وبهذا نقول; لأنه - عليه السلام - قد جعل لها الخيار في المجلس وبعده، حتى تستأمر أبويها، ولم يقل: فلا تستعجلي حتى تستأمري أبويك في مجلس.

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              الصريح لا حاجة فيه إلى النية، وهو ثلاثة: الطلاق، والفراق، والسراح. وفيهما قول.

                                                                                                                                                                                                                              وخالف أبو حنيفة في قوله: أنا منك طالق .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 240 ] ودليلنا عليه قوله: أنا منك حرام وبائن. وعند المالكية خلاف في أن الفراق ثلاث أو واحدة أو ثلاث، فيمن دخل بها .

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              عند المالكية تقسم الكناية إلى ظاهرة ومحتملة، فالظاهرة: ما جرى العرف بأن يطلق بها في اللغة والشرع، مثل: أنت خلية وبرية، وبائن، وبتلة، وحبلك على غاربك، وأنت علي حرام.

                                                                                                                                                                                                                              وهذه الألفاظ في المدخول بها ثلاث، ولا تقبل منه إن لم يرد الطلاق، ولا أنه أراد دون الثلاث، هذا قول القاضي في "معونته" .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن القصار: هذه الألفاظ من صريح الطلاق، غير أن بعضها آكد من بعض.

                                                                                                                                                                                                                              وأما المحتملة: كقوله: اذهبي، انصرفي، واخرجي، اغربي. فهذا يقبل منه ما يدعي أنه أراد، من طلاق وغيره، من قليل العدد وكثيره.

                                                                                                                                                                                                                              وضرب ثالث: هو ما ليس من ألفاظ الطلاق مما يستثنى وشبهه، فإن: أراد به الطلاق، فقيل: يكون طلاقا. وقيل: لا .

                                                                                                                                                                                                                              وخالف الشافعي في الكنايات الظاهرة إذا قال: أردت بها الطلاق، أو أردت دون الثلاث.

                                                                                                                                                                                                                              فقال: يقبل قوله في دينك. ودليل المالكية ما سلف أن هذه الألفاظ تتضمن إيقاع الطلاق بهذه الصفات، كأنه قال: أنت طالق تحرمين به، وتبينين به.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 241 ] واختلف في البتة، وحبلك على غاربك هل ينوي؟ على قولين لهم، قال مالك في الأول: نعم. وخالف ابن القصار، وفي "المدونة" في الثاني: لا . وفي كتاب محمد خلافه، وهذا إذا لم يكن دخول.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أشهب في كتاب أبي الفرج: ينوي الخلية والبرية وإن كان بتا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال محمد بن عبد الحكم في حبلك على غاربك وشأنك: بها واحدة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال مالك عند ابن خويزمنداد في الحرام: إنها واحدة بائنة وإن دخل بها. وقال أبو مصعب: هي واحدة إن لم يدخل بها .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية