الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الثاني: الإسلام وحماية البيئة

لئن كانت البيئة أو بالأحرى الأرض، أحد مكوناتها، هي التي يحصل الإنسان منها على كل مقومات عيشه، فإن حمايتها تعد السبيل الأقوم للحفاظ على حياته. لذلك، فإن الخطوة الأولى في هذا السياق، تمثلت في دعوة الإسلام إلى عدم الإسراف، ومن ثم استنزاف الموارد الطبيعية وتبديدها:

( كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) (البـقـرة:60) ،

( ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ) (الشعراء: 151- 152) . [ ص: 126 ] ثم نهى عن الفساد في الأرض: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) (الأعراف:74) ،

( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) (البقرة:11-12) ،

ليشمل هذا النهي علاوة عن عموم الفساد في الأرض، مكوناتها من حرث ونسل: ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ) (البقرة:205) .

وكذلك بقية العناصر الطبيعية من ماء وهواء، اللذين أولاهما الإسلام عناية كبرى [1] . ومرد ذلك كونهما عنصرين أساسين يتوقف عليهما وجود الإنسان والنبات والحيوان واستمرار حياتهم:

( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) (الأنبياء:30) .

( والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ) (النحل:65) .

وبالتوازي مع هذه الدعوة لترشيد استعمال الموارد الطبيعية، والنهي عن عموم الفساد في الأرض لمختلف عناصر البيئة، فإنه وعد [ ص: 127 ] المفسدين فيها بالخسران، وتوعدهم بسوء القرار: ( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ) (الرعد:25) .

ولعل من بين دواعي اقتران الفسـاد بلفظ الأرض، هو التنبـيه، كما أسلفنا، إلى أنها هي محيط الإنسان، فيها يأخذ حيزه، ومنها يستمد حاجياته، وإليها مصيره.. لذا عليه أن يتعامل معها بكل جدية سالكا سبيل ما يقتضيه العقل الراجح والعاطفة الخيرة والوجدان المرهف [2]

وإلى جانب القرآن الكريم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حث بدوره على حماية البيئة ومكوناتها. وليس أدل على ذلك من وصاياه التي أوصى بها جيـشه في غزوة مؤته وهو يتأهب للرحـيل: ( لا تقـتـلن امرأة ولا صغيرا رضيعا، ولا كبيرا فانيا، ولا تحرقن نخلا، ولا تقلعن شجرا، ولا تهدموا بيوتا ) [3] .

هذا في الحرب، ومن باب أولى وأحرى في السلم، حيث تزخر السنة النبوية بالدعوات المتكررة للحفاظ على أديم الأرض ومن ثم الحد [ ص: 128 ] من أثر بعض الظواهر الطبيعية مثل الانجراف والتصحر والجفاف.. وفي هذا الإطار ( يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان له صدقة ) [4] . فآنئذ لا يملك المسلم، وفق قول الأستاذ المستاوي ، إلا أن ينخرط بصفة كلية ونشيطة في عملية الغراسة والتشجير، وينبغي أن يكون ذلك منه بصفة متواصلة إلى آخر رمق في حياته، يعمل دائما، بالحكمة القائلة: (غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون) ، ولا يغيب عن ذهن المسلم ذلك الحديث النبوي الشريف الذي دعا المسلم إلى الغراسة دائما، حتى ولو كانت الساعة تقوم... إنه منتهى الأمل وتواصل العمل بدون كلل [5] ...

وانسجاما مع هذا التوجه، فقد سار أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلى رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه على نفس الدرب، حيث قال في هذا السياق: " لا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولابعيرا إلا لمأكلة " [6] . [ ص: 129 ]

وعموما، فإن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة تزخران بدعاوى الحفاظ على البيئة ومكوناتها الحية وغير الحية، انطلاقا من الإنسان والحيوان والنبات، وصولا إلى الماء والهواء والأرض.. التي تهدف في اعتقادنا إلى تعزيز مفهوم الإسلام لعلاقة الإنسان بالبيئة -التي تقوم على الوفاق والتكامل بدل الصراع والتنافر- الذي يدفع بدوره نحو التمديد في استخدام مختلف الموارد الطبيعية عبر الزمان والمكان، ومن ثم حماية حقوق الأجيال المقبلة في التمتع بتلك الخيرات، التي تنـدرج في إطـار دعوة أشمل إلى نبـذ الإسـراف والتبذير على مستوى الاستهلاك:

( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) (الأعـراف:31) ...

( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) (الإسراء:29) ،

ومن ثم إلى ترشيد استخدام الموارد الطبيعية وعدم استنزافها وتبديدها على صعيد الإنتاج. [ ص: 130 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية