الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الأول: الأسباب المباشرة

تتمثل الأسباب المباشرة -كما أسلفنا- في دور كل من الاستعمار والاختيارات التنموية، اللذين سنتناولهما تباعا بشيء من التفصيل. [ ص: 51 ]

1- دور الاستعمار

لقد لعب الاستعمار دورا كبيرا في زرع جذور مشكلة الغذاء، هذه المشكة التي ظهرت في وضح النهار بعد ما يزيد على قرن ونصف القرن، منذ أن انطلق الاستعمار الغربي في الاستيطان بالمنطقة العربية الإسلامية. ولئن استغرق بروز هذه المشكلة كل هذه الحقبة من الزمن، لتسقط خلالها كل الأقنعة التي طالما تخفت وراءها الأهداف الاستعمارية تحت شعارات مزيفة تحمل في ظاهرها الخروج بالمنطقة كجزء من العالم الثالث، من هوة الفقر وظلام الجهل، لتكرس في الواقع التجزئة والسيطرة الشاملة بمختلف أبعادها، خصوصا الثقافية منها، التي من خلالها تخترق أفكار المستعمر وثقافته ونمط حياته العقول والمجتمع، وتساهم-من ثم- في تشويه الهوية العربية الإسلامية لشعوب المنطقة، وتحطيم أسس وحدتها وتمايزها الحضاري الذي يشكل الإسلام عموده الفقري [1] [ ص: 52 ]

لئن استغرق ذلك كل هذه الحقبة، فإن الاستعمار لم يحافظ بدوره على أشكال التعامل نفسه مع المنطقة العربية الإسلامية لنهب خيراتها الطبيعية واستنزاف طاقاتها البشرية، بل عمد إلى اتباع أشكال مكشوفة، وأخرى مقنعة، وفق متطلبات المرحلة.

ولتعريتها سنتعرض إلى مرحلة الاستعمار الاستيطاني أو المباشر، ثم مرحلة الاستعمار المقنع أو غير المباشر، حتى نتبين من خلالهما بعض الوسائل التي توخاها الاستعمار لزرع جذور مشكلة الغذاء وتعميقها شيئا فشيئا، لتتحول إلى إحدى المعضلات التي تهدد الوجود البشري بالمنطقة العربية الإسلامية، خاصة بعض أجزائها أثناء هذا الربع الأخير من القرن العشرين.

أ- مرحلة الاستعمار الاستيطاني: فرض المبادلات النقدية وانتزاع الأراضي الخصبة:

لئـن كـان من بين أهـداف الاستعـمـار الاستـيـطاني، تـوفيـر [ ص: 53 ] ما يحتاجه "المتروبول" من مواد فلاحية، غذائية كانت أم صناعية، وبتكاليف أبخس مما هي عليه بالدولة الاستعمارية، فإن تلك المهام ليست منفصلة عن إدخال حضارة المستعمر -كما أسلفنا- وحمايتها، تلك الحضارة الغربية التي ترعرعت في أحضانها الرأسمالية على الأموال المنهوبة للأمريكيتين من أفريقيا والشرق الأقصى، وبالإفادة، على سلم لم يسبق له مثيل في الماضي، من الاختراعات التي أخذتها ( أوروبا ) عن الصينيين وعن العرب: بحرية تفيد من أجهزة دفة السفن ومن البوصلة، وهي تيسر إمكان الملاحة البحرية إلى مسافات طويلة، وكذلك استخدام البارود والأسلحة النارية بوجه خاص [2] .

وبذلك، فإن تطور الآلة الاستعمارية العسكرية المدمرة مكنت الدول الرأسمالية من بسط نفوذها الاستيطاني في المنطقة العربية الإسلامـيـة لتحقيق أهدافها. وحتى نقتصر على الجانب الفلاحي، فما هي الوسائل التي توخاها الاستعمار في هذا القطاع لتوفير حاجياته، ومن ثم زرع الأسباب التاريخية لمشكلة الغذاء؟

إن من بين ما توخاه الاستعمار هو إدخال المبادلات النقدية، ونشرها بالأرياف خاصة، حيث كانت المقايضة تلعب دور مهما نسبيـا في العلاقات التجارية، العامل الذي كان يستوجب بالضرورة على [ ص: 54 ] مستوى الإنتاج، توفير ما يفي بحاجيات الطلب الداخلي والذوق المحلي لتيسير عملية المقايضة.

لكن، ومنذ دخول المنطقة العربية الإسلامية تحت هيمنة الآلة العسكرية الرأسمالية، وسيطرتها المباشرة، فرض عليها الاستعمار الغربي نظامه النقدي الذي أزاح شيئا فشيئا النظام السائد للمبادلات، وذلك بفرض نوع معين من الإنتاج الفلاحي لا يلبي إلا طلباته على حساب طلب السكان الأصليين، لأن النقود بعد أن أصبحت تشكل أساس المبادلات، فإن الحصول عليها يقضي إنتاج مواد سهلة الرواج... تلك المواد أو السلع التي لا يمكن أن تكون غير التي يشجعها الاستعمار بهدف التصدير نحو "المتروبول"، وبذلك تقهقر الإنتاج للاستهلاك الغذائي الداخلي، بعد أن توجه النشاط المحلي لتوفير وإنتاج المواد الفلاحية الغذائية منها والصناعية التصديرية.

ومن ثم فالإيفاء بحاجيات السكان الأصليين يقتضي اللجوء إلى استيراد المواد الغذائية، بل وحتى التقانة، والمدخلات لإنتاج المواد التصديرية، الذي من خلاله، أي الاستيراد، يتم إرساء سلوك استهلاكي جديد، ونمط عيش مستورد، يقضي شيئا فشيئا على الأنماط المحلية، ويحقق المستعمر بذلك كل مهامه من توفير حاجياته إلى إدخال حضارته، فالتبعية بمختلف أبعادها. [ ص: 55 ]

لكن ولفرض المواد الفلاحية التصديرية مثل الكروم لصنع الخمر، والقمح والقطن والزيتون والفول السوداني... لم يقف الاستعمار عند حدود إدخال المبادلات النقدية، بل عمد إلى طرق أخرى لعبت كذلك المبادلات دورا فعالا في تدعيمها، تمثلت في انتزاع الأراضي الخصبة. وقد بلغت في الجزائر [3] جملة الأراضي التي تم انتزاعها من المواطنين وإعطاؤها للمستوطنين، والتي صودرت من سكان الريف خلال الفترة ما بين عامي 1840 و1950م حوالي 2.703.00 هكتار... وعام 1960م كانت الملكية العقارية الأوروبية، وتشمل الأراضي الزراعية التي يسيطر عليها المستوطنون، تمثل 90% من الأراضي الصالحة للزراعة، وكانت 85% من الأراضي التي يسيطر عليها الأوروبيون ملك ستة آلاف من الملاك الكبار، وكان الاهتمام بها ينصب على زراعة القمح والكروم لحاجة فرنسا إليهما.

وفي تونس ، فإنه بمقتضى المرسوم الصادر في شباط (فبراير) 1882م، القاضي بضم الأراضي البور إلى ملكية الدولة، تم الاستيلاء على مساحات شاسعة، وإعادة توزيعها على مستوطنين، ثم لجأت السلطات [ ص: 56 ] الفرنسية في خطوتها الثانية لتنفيذ سياستها إلى الاستيلاء على الأوقاف الخيرية، ومنحها بدورها إلى المستوطنين، ثم استمرت السلطات الفرنسية في سياسة الاستعمار الرسمي بإجراءاتها المتتالية، وأقدمت على التوسع في أملاك الدولة لتتمكن من إعادة توزيعها على المستوطنين، دون أن تخلق لها هذه السياسة مشكلات محلية.

ونتج عن تطبيق هذه السياسة، أن بلغ ما يملكه المستعمر [4] ، نحو 562000 هكتار، منها 150.000 هكتار تتقاسمـها أربع شركات رأسمالية كبـرى: الشركة الفرنسية الأفريقية للنفيضة، شركة الفوسفات والخط الحديدي لقفصة، شركة الضيعات الفرنسية، والتجمع العقاري، في حين أن باقي المساحة هي ملك (35000) من المستعمرين.

أما في المغرب الأقصى، فإن الاستعمار مارس أساليب جديدة في انتزاع الأراضي، فهناك أراض لم تستطع السلطات الاستعمارية انتزاعها مباشرة، لأن العرف القبلي يقضي عدم بيع الأرض إلا لأفراد القبيلة نفسها، ولم يـأبه الاستعمار بهذا العرف، ولكنه كان يريد تنفيذ سياسته بأكثر قدر من الهدوء وبأقل التكاليف، دون استنفار وإثارة القبائل، عن طريق وسائل غير مباشرة، إذا أمكن ذلك، لذلك لجأت [ ص: 57 ] الإدارة الاستعمارية إلى دفع إدارة الأملاك المخزنية (أملاك الدولة) إلى منازعة أصحاب الأرض وانتزاعها منهم وضمها إلى ما يسمى بـ"أراضي الجيش"، وكان الغرض من هذا الأسلوب السيطرة على الأرض وإعادة توزيعها على المستوطنين، وذلك بالإضافة إلى استخدام سلاح الديون والإقراض، التي غرق بها الفلاحون إلى درجة عجزهم عن دفعها والوفاء بها، ومصادرة الأرض مقابل ذلك، وفي هذا الإطار فإن مجموع المساحات التي انتزعت من المواطنين، ارتفع من 150.000 هكتار عام 1913م إلى ما يفوق 1.150.000 هكتار عام 1956م.

وختاما، فإن سلطات الاحتلال الإيطالي أصدرت بعد ثلاث سنوات من دخولها القطر الليبي، عام 1914م، مرسوما خاصا بالأراضي الزراعية، يسمح للسلطات الاستعمارية بمنح الأراضي الأميرية للإيطاليين الذين يرغبون في الحصول عليها واستثمارها. وفي عام 1919م، جرت أول محاولة بشأن الامتيازات الزراعية، التي تمنح لفترة محددة بموجب مرسوم آخر صدر بهذا الخصوص، ويقضي بأن يدفع المستوطن أقساطا سنوية لمدة 90 سنة على أن تعود الأرض موضوع الامتياز إلى الدولة في نهاية المدة...

وفي شباط (فبراير) سنة 1923م، صدر مرسوم ثالث يقضي بالتملك لجميع الأراضي البور في طرابلس ، من البحر حتى الجبل. [ ص: 58 ] ونتيجة لهذا المرسوم، تملكت السلطات الاستعمارية مساحات من الأراضي بلغت 100.000 هكتار صودر بعضها من السكان المحليين، ومنح إلى أصحاب الامتياز من المستوطنين... وقد كانت خطة الإيطاليين الاستيطانية تقضي أولا بالاستيلاء على الأراضي القريبة من المدن، ثم بدأت بالامتداد والتوسع في هذه السياسة إلى المناطق الأخرى الصالحة للزراعة...

وعلى ضوء ما تقدم، فإن الاستعمار كان يستولي على أفضل الأراضـي ليعيد توزيعها من جـديد على المستعمرين بهدف إنتـاج ما يلبي حاجيات "المتروبول"، مع تقديم التسهيلات الضرورية عند تصدير الإنتاج، لتوفير المرافق اللازمة، لحث المستعمرين على المكوث، ولتشكل قطب جذب لمعمرين وعسكريين جدد، يقوي بهم الاستعمار عضده في تدمير خيرات تلك الأراضي المغتصبة وتبديدها، وذلك على حساب السكان عموما، والفلاحين الأصليين خصوصا، الذين كانت ترهق كاهلهم الأداءات المجحفة التي فرضها الاستعمار لتمويل تلك المرافق، والخدمات، وشبكات الطرق، والسكك الحديدية، التي تربط بين أماكن الإنتاج والموانئ البحرية، لتحويل ذلك الإنتاج وتصديره إلى الخارج.

وقد كانت تلك الأداءات تدفع ببعض الفلاحين إلى إنتاج المواد [ ص: 59 ] الفلاحية التصديرية ذات التسويق السريع، للحصول على النقد، أداة التعامل بين المستعمر والمستعمر، كما كانت تدفع بعضهم الآخر إلى التخلي عن أراضيهم لصالح المستعمرين، بعد أن يجدوا أنفسهم عاجزين عن دفع الضرائب، نظرا لارتفاع حجمها وانخفاض المداخيل.

وبهذه العملية المزدوجة -فرض الزراعات التصديرية، واغتصاب الأراضي لإنتاجها- زرع المستعمر جذور مشكلة الغذاء، وذلك على عدة أصعدة، منها: أن هذه الزراعات التي تنتجها المنطقة العربية الإسلامية، لا تلبي حاجيات السكان المحليين. ولتفادي هذا النقص، لعب التوريد والاستدانة كذلك دورا رياديا. فالتوريد المتزايد الذي يعد أحد مظاهر مشكلة الغذاء، تمتد جذوره التاريخية إلى الاستعمار الاستيطاني، إضافة إلى أن تلك الزراعات المحدودة العدد، باستمرارها وتكرارها أثناء كل موسم فلاحي، أنهكت الأراضي، بعد أن كان الفلاحون الأصليون يلجئون إلى التداول، أي تقسيم الأراضي إلى أجزاء. وعندما يزرع الفلاح جزءا منها مع مراعاة تنويع الزراعات للحفاظ على خصب الأرض، فإن البقية تخلد إلى الراحة لتحسين نسبة الخصب.

أما على صعيد ثان، فإن انتزاع الأراضي، وتوسيع رقعة الاغتصاب كلما قحلت وقل عطاؤها، كان يحصل على حساب الغابات، والمروج، [ ص: 60 ] والمراعي، وكذلك الفلاحين، الذين بفقدانهم مورد رزقهم، وتدهور مستواهم الاجتماعي شيئا فشيئا، لجئوا إلى النزوح عن المدن والقرى، وتوغلوا في الجبال والأحراش والغابات ليعاضدوا مرغمين عملية تحطيمها، ذلك التحطيم الذي دعم الجذور التاريخية للتصحر، والجفاف والانجراف...، بعد أن افتقدت الطبيعة من جراء تسارع تلك الظاهرة توازنها البيولوجي.

فإذا كان ما تطرقنا إليه يمثل بعض الأشكال المباشرة التي توخاها الاستعمار، فإنه لم يقف عند هذا المستوى، بل تجاوزه إلى وسائل مقنعة أخرى للحفاظ على مصالحه، ومن ثم تكريس مشكلة الغذاء، وتبعية المنطقة العربية الإسلامية بمختلف أبعادها.

ب- مرحلة الاستعمار المقنع

دور الشركات الغذائية العالمية

على عكس مرحلة الاستعمار الاستيطاني، التي اتسمت بالوجود العسكري المباشر، فإن مرحلة الاستعمار المقنع تتسم بالجلاء العسكري، ويجسدها الاستقلال السياسي للمنطقة العربية الإسلامية.

لكن، ورغم تغييـر الأشكال بين مرحلة وأخرى، فإن الاستعمار لم يتخل عن أهدافه الثقافية والاقتصادية، المتمثلة في المجال الفلاحي، في توفير المواد الغذائية والصناعية التي يحتاجها.. بل وإثر التجائه [ ص: 61 ] أثناء مرحلته الاستيطانية إلى المعمرين أساسا لإنتاج تلك المواد، فإنه عمد خلال هذه المرحلة إلى أشكال مقنعة، منها الشركات العالمية الغذائية، لمواصلة الحفاظ على تلك المصالح وشحنها باتجاه الدول الاستعمارية تاريخيا، حتى إننا أصبحنا اليوم نعيش عصر تغلغل الشركات الزراعية في العالم بأسره، وربط مزارع البلدان المتخلفة بأسواق الغذاء العالمية [5]

ولتحقيق أعلى نسب الأرباح، فإن هذه الشركات ما فتئت تفرض مراقبة على مسالك الإنتاج حتى تفي بكل طلبات القطاع، من أسمدة، ومبيدات، وبذور، وتجهيزات... وعلى مسالك التوزيع والتسويق كذلك، لمعرفتها العميقة بطلبات المستهلكين ذوي الطاقات الشرائية المرتفعة، والمتمثلة في الأقليات المسرفة بالأوساط الحضرية للمنطقة العربية الإسلامية، وفي جحافل المترفين بالمراكز المدنية للدول الصناعية الكبرى مثل نيويورك ، وباريس ، ولندن ... لذلك وللاقتراب أكثر فأكثر من المنتجين والمستهلكين، فإنها تملك فروعا في شتى أنحاء العالم.

ولتبيان أهمية المراقبة لدى تلك الشركات، كتب "أرنيست فيدر"، بأنـها -أي المراقبـة- بمثابة الشـرط الأولي لتقرير ماذا تنتج، وما هي الكميات الضرورية، ثم متى وبأية وسيلة تتخلص من الإنتاج [ ص: 62 ] النهائي، وكيف تضمن الحدود القصوى لترحيل الأرباح [6] ؟ فإذا كان لهذه الشركات هذا الثقل كله، فكيف تساهم في تعميق جذور مشكلة الغذاء؟

إن هذه الشركات الغذائية بقدر ما تتحدث عن إنتاج الغذاء، فإنها لا تتحدث عن الفول، والذرة، والقمح،... بل تشير بدلا من ذلك إلى الفراولة، واللحوم، والأزهار [7] ففيما يتعلق مثلا باللحوم، فإن إنتاج كيلو جرام واحد منها يتطلب ما بين ثلاثة إلى سبعة كيلو جرامات من الحبوب، وذلك طبقا لنوع اللحم المطلوب، دواجن، خنزير، بقر، ولتوازن غذاء الماشية من طاقة، حبوب، ومن زلاليات [8]

لذلك نجد أنه على مستوى مجمل الدول الصناعية، 60% من كل الحبوب تستعمل لتغذية الحيوانات، أما على صعيد الولايات المتحدة الامريكية وحدها، فإن 90% من الشعير، والذرة، والصويا، أي نسبة ما يوازي ربع الكمية غير المصدرة من الحبوب، تستهلكها [ ص: 63 ] الحيوانات، مما حدا بأحد الأمريكيين إلى أن يشير إلى أن سياسة تبديد محاصيل الولايات المتحدة الغنية بالزلاليات شهدت نجاحا، بلغت معه كمية الزلاليات المستعملة لتغذية الماشية فقط أكثر من ستة أضعاف الكميات الضرورية لتغذية الشعب الأمريكي. وكلما وقع إفراط في استهلاك اللحوم تبعه تبديد أكثر لذلك النوع من المحاصيل.

لكن إنتاج الشركات الغذائية العالمية الكبرى لا يقتصر على ذلك، بل إنه يمتد أيضا إلى المواد الفلاحية الصناعية، لسهولة تسويقها، وذلك على حساب الأغذية الأساسية للسواد الأعظم من الجمـاهير، التي لتوفيـرها تفتح الأبواب على مصراعيها للتوريد بكل ما يولده من تغيير في نمط الاستهلاك، يعضده في ذلك تركيز تلك الشركات المفرط على الدعاية، التي تتحول معها جميع أنواع الحليب الاصطناعي، نستلي، سيريلاك... وكل أنواع المشروبات الغازية، كوكا كولا، فانتا... إلى "ضروريات" لا يكتمل نمو الأطفال أو لا تتم عملية الهضم وفتح الشهية بدونها!.

هكذا إذا، وبكل براءة وسذاجة، براءة الأطفال الرضع، وسذاجة التقليد السخيف، تساهم الشركات في زرع جذور مشكلة الغذاء، من خلال التأثير في إرادة المستهلكين لإنتاج وتسويق كل ما لا يمت إلى حاجاتهم الأساسية بصلة، لما يحققه ذلك من أرباح طائلة ترنو [ ص: 64 ] إليها تلك الشركات.

لكن الاستعمار الذي تشكل تلك الشركات الغذائية العالمية وجهه المقنع، ليس السبب المباشر الوحيد لمشكلة الغذاء، بل للاختيارات التنموية ضلع ظاهر في ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية