الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

البعد المصدري لفقه النصوص

الدكتور / صالح قادر الزنكي

المبحث الثاني

التأصيل الشرعي للبعد المصدري في

تفقه النص الشرعي

يمكننا التأصيل لوجوب استحضار هـذا البعد بما يأتي:

1- هـناك آيات كثيرة ذكر في نهايتها صفات الباري عز وجل بعد ذكر الحكم الشرعي في المسألة وذلك للفت نظر القارئ الحصيف إلى أن تلك الأحكام لم تصدر إلا عن علم مطلق لم يسبقه جهل، ولا نهاية له، وأنها محتوية على حكمة ليست فوقها حكمة، وأنها نسمات الرحمة وآثارها، وأنها نعمة العزيز الغني عن العالمين وفضله الواسع اللامتناهي، كما أنها متزامنة مع العدل الذي يتحاكم إليه المتخاصمون، ويبنى عليه التكليف، ويجري عليه ناموس الكون.

ونصوص الشرع بهذه الصفات الحسنة؛ تحدو بالمكلف إلى الاستسلام الطوعي لأحكامها، استسلاما مؤسسا على العلم، نابعا عن الرضى والحب والجذل، والقناعة التامة التي لا تزعزعها ريح عاتية، ولا تزلزلها الشكوك، ولا تداخلها الأوهام.

والذي ينبغي قوله: إن هـذه المعاني القيمية والجمالية من العدل والرحمة والحكمة وغيرها؛ ليست في الإسلام من قبيل الترف الفكري [ ص: 69 ] المجرد، والبعيد عن حقيقة التشريع، بل قيم تركبت منها حقيقة الأحكام، وتوقف عليها وجودها وقوامها. وفي قيمة العدل، يقول الأستاذ محمد فتحي الدريني : «العدل في التشريع الإسلامي ليس فكرة فلسفية خيالية مجردة، ولا أمرا خارجا عن نصوصه ومقاصده ونتائج تطبيقه، بل هـو مندمج في كل أولئك» [1] .

وأكد على هـذا الأمر الأستاذ علال الفاسي بقوله: «إن غاية الشريعة هـي مصلحة الإنسان كخليفة في المجتمع الذي هـو منه، وكمسئول أمام الله الذي استخلفه على إقامة العدل والإنصاف، وضمان السعادة الفكرية والاجتماعية، والطمأنينة النفسية لكل أفراد الأمة» [2] .

ومن تلك الآيات التي وردت فيها تلك الصفات،

قوله تعالى: ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ) (البقرة:173) ،

وقوله تبارك وتعالى: ( فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم ) (البقرة:181) ،

وقوله تعالى: ( وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم ) (البقرة:228) ،

وقوله الكريم: ( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا [ ص: 70 ] الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم ) (البقرة:267-268) ، وقوله تعالى: ( فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا ) (النساء:34) ،

وقوله تعالى: ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ) (النساء: 11) ،

وقوله تعالى: ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ) (المائدة: 38) ، وغيرها.

2- آيات قرآنية كثيرة جدا بدأت ب: ( يا أيها الذين آمنوا ) كقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ) (البقرة:183) ،

وقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) (النساء:43) ،

وقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) (الحجرات:1) ،

وقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ) (النساء:135) ،

وقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا [ ص: 71 ] الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) (النساء: 59) ، وقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) (النساء: 19) ،

وقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) (البقرة:282) ،

وقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ) (البقرة:278) ،

وقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) (البقرة:264) ،

وقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص ) (البقرة:178) ، وغيرها.

إن الله سبحانه وتعالى في تلك الآيات الكريمات لم يكلف الناس بتلك الأحكام العملية مطلقا، بل كلف من آمن بإرادته واختياره، ورضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا. وحين يكلفهم لا يكون بهذا التكليف قد اشتط وجار عليهم، لأنهم آمنوا به بمحض إرادتهم، ولم يقعوا تحت وطأة الضغط والإكراه، إذ: ( لا إكراه في الدين ) (البقرة:256) .

وما دام أيها العبد المؤمن قد دخلت باختيارك في دائرة النور والإيمان، فعليك أن تستجيب لنداءات «افعل» و «لا تفعل» كلما طرقت بلطف سمعك.

يقول في هـذا الصدد الشيخ الشعراوي رحمه الله: «إنك آمنت بالله إلها حكيما قادرا، ومادمت آمنت بالله إلها حكيما قادرا؛ فسلم زمام الأوامر والنواهي له سبحانه، فإن وقفت في أمر شيء، أو نهي عن شيء؛ فراجع إيمانك بالله، فإذا دخلت فإياك أن تكسر حكما من أحكام الله الذي آمنت به» [3] . [ ص: 72 ]

3- ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما رفعوا أصواتهم بالذكر ( عن أبي موسى ، رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أيها الناس! اربعوا على أنفسكم، إنكم ليس تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا، وهو معكم ) [4] . أي: ارفقوا بأنفسكم، ولا ترهقوها برفع الصوت، فإن رفع الصوت إنما يفعله الإنسان لبعد من يخاطبه، ليسمعه، وأنتم تدعون الله، ومن صفاته أنه سميع قريب مجيب، وهو معكم أينما كنتم.

ففي هـذا الحديث توجيه عظيم من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ولأمته، أن يستشعروا ويستصحبوا ويفعلوا ما لله تعالى من أسماء وصفات وأفعال في نفوسهم وقلوبهم، وأن لا يعطلوها خلال التعرف والبحث عن أحكام تصرفاتهم، مثل حكم رفع الصوت في الذكر والدعاء، تلميحا منه صلى الله عليه وسلم إلى الآيات التي تتحدث عن هـذه الصفات،

كقوله تعالى: ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) (البقرة:186) ، [ ص: 73 ] وقوله تعالى: ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) (ق:16) .

4- ما ورد في قصة الرجل المشتكي بطنه من وجع ألم به ( عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي يشتكي بطنه، (وفي رواية لمسلم : استطلق بطنه) [5] ، فقال صلى الله عليه وسلم : «اسقه عسلا». ثم أتى الثانية (وفي رواية مسلم: فقال إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقا [6] ) ، فقال صلى الله عليه وسلم : «اسقه عسلا». ثم أتاه الثالثة فقال صلى الله عليه وسلم : «اسقه عسلا». ثم أتاه فقال: فعلت. فقال صلى الله عليه وسلم : «صدق الله، وكذب بطن أخيك، اسقه عسلا ) [7] .

ذلك لأن الله تعالى قال:

( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء ) (النحل: 69) ،

وما قاله سبحانه وتعالى في العسل؛ قاله عن علم لا يخطأ، وهو العالم بحقائق الأشياء علما قاطعا للشك والاحتمال ( قل أأنتم أعلم أم الله ) (البقرة:140) .

وما نطقت به الآية صراحة في وصف العسل بالشفاء؛ هـو عين الحق الذي لا يرتاب فيه. [ ص: 74 ] وانطلاقا من صدق الله تعالى، وعلمه التام والكامل؛ كذب الرسول صلى الله عليه وسلم بطن ذلك الرجل المشتكي ألما، وأصر صلى الله عليه وسلم على سقيه إياه العسل في كل تلك المرات، وهذا الحديث نص في أسلوب تقنين الجرعات الدوائية، وتحديد عدد مرات تكرارها، فإن الدواء يجب أن يكون له كمية معينة وجرعات مناسبة حسب حالة كل مريض، فإذا زادت الجرعة عن معدلها أضرت بالمريض، وأفضى إلى ظهور مضاعفات جانبية، وإذا قلت عن معدلها قد لا يؤثر في المريض، بل أحيانا يقوي بكتريا المرض، فيتفاقم المرض، وهذا ما أكد عليه الطب الحديث.

قال ابن القيم في تكرار السقي: «وفي تكرار سقيه صلى الله عليه وسلم العسل معنى طبي بديع، وهو أن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب حال الداء، إن قصر عنه لم يزيله بالكلية، وإن جاوزه أوهن القوى، فأحدث ضررا آخر، فلما أمره صلى الله عليه وسلم أن يسقيه العسل سقاه مقدارا لا يفي بمقاومة الداء، ولا يبلغ الغرض، فلما أخبره؛ علم أن الذي سقاه لا يبلغ مقدار الحاجة، فلما تكرر ترداده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أكد على المعاودة ليصل إلى المقدار المقاوم للداء، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء برئ بإذن الله» [8] . [ ص: 75 ] وبعدما تناول الشخص الجرعات، ولم يشعر بالتحسن؛ فلم يبق أمام الرسول صلى الله عليه وسلم خيار إلا أحد الخيارين: إما التشكيك في صدق الآية، وإما التشكيك في ذلك الوجع المدعى، وهذا الأخير، وهو كذب الوجع هـو المتعين بالضرورة، لاستحالة الخلف والخطأ في كلام الله تعالى، الذي ليس ثمة من هـو أصدق منه قيلا، ولاستحالة اتصافه بالجهل في شيء [9] .

5- استشارة فاطمة بنت قيس ، رضي الله عنها الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر زواجها وهي كانت في مرحلة الخطبة، وسبق لها أن تزوجت من أبي عمرو بن حفص ، فطلقها؛ فذكرت للنبي أن أبا جهم ومعاوية بن أبي سفيان قد خطباها، وما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في زواجها، أن لا تتزوج من أبي جهم ، ولا من معاوية ، ونص كلامه صلى الله عليه وسلم في هـذا الأمر: « أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك [10] لا مال له؛ انكحي أسامة بن زيد » [11] . قال أهل العلم: عبارة «لا يضع عصاه عن عاتقه» كناية عن ضربه للنساء، أو كناية عن كثرة السفر [12] .

يبدو للناظر في الحديث نظرة عجلى؛ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشجع فاطمة على الزواج بمعاوية ، بل منعها، والسبب في ذلك لكونه فقيرا لا مال له، [ ص: 76 ] ومنه يفهم أن الإسلام يمنع الزواج من الفقراء، ومعنى ذلك أنه دين يؤصل لميلاد الطبقتين: العليا الغنية الثرية، والسفلى الفقيرة المعدومة!

لكن بالاعتماد على صفة التشريع الإسلامي يتبدد هـذا التوهم. فمن استوعب أسس هـذا التشريع وكلياته؛ حصل له عرفان بأن الشارع الحكيم لم يربط قيمة الإنسان بالمال طردا وعكسا، فمن كان ذا مال وبنين فهو الأكرم والأفضل، ومن لا يملك الثروة فلا اعتبار له، ولا يستحق الذكر.

وثبوت هـذه الصفة التشريعية وجلائها؛ هـو الباعث وراء انعقاد إجماع الفقهاء، على أن هـذا الحديث لا يدل البتة على أن المرأة لا يجوز لها أن تتزوج من رجل فقير، وكل ما دل عليه؛ أنه صلى الله عليه وسلم كان في حال النصح والإرشاد، والمستشار مؤتمن، ولذلك أرشدها صلى الله عليه وسلم إلى الأصلح من أمرها، والأكمل من حالها، وهو زواجها من أسامة بن زيد [13] .

على أن الحديث يحمل في طياته دلالات تشريعية مهمة، منها: أولا: يتعين على المستشار في مسألة من المسائل أن يكون عالما بصيرا بالمسألة قيد الاستشارة، فلا يبني رأيه على الظن والتخمين، بل على العلم والبرهان. [ ص: 77 ]

ثانيا: يجوز لمن كان في هـذا المقام -بقدر الضرورة والحاجة- أن يبين ما عليه الشخص الخاطب من الصفات السلبية، ولا يدخل ذلك تحت موضوع الغيبة المحرمة شرعا، حفاظا على سلامة بناء الأسرة، وتغذية شريانها بالحياة السعيدة.

وكان عليه عليه الصلاة والسلام عالما بكل من الخاطبين، واكتفى بذكر خصلة واحدة لكل واحد منهما، تمهيدا مبررا للانتقال إلى غيرهما، كما كان عالما بحال فاطمة ونفسيتها، وأدرك أنها امرأة لا تتحمل الفقر، ولا تصبر عليه، كما لا تتحمل الضرب، أو لا تتحمل البقاء في البيت وحدها بدون الزوج لأيام أو شهور -إذا كان الزوج كثير السفر بناء على التأويل الثاني للحديث-، علم أنها امرأة ذات طبيعة حساسة ورقيقة، وفي حديث آخر أشار إلى بعض صفاتها، ولذلك أرشدها إلى الزواج من أسامة ، الشخص المناسب الصالح لها.

والدليل على حسن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة ؛ ما ورد في نهاية الحديث، حيث أقرت فاطمة بذلك، ( وقالت: فنكحته، فجعل الله فيه خيرا، واغتبطت به ) . ثالثا: كانت فاطمة بنت قيس قرشية، وأسامة بن زيد كان من الموالي، ومع هـذا وجه النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة إلى التزوج منه، مما يدل على أن ذلك الفارق الاجتماعي لا يؤثر بالسلب على الكفء، كما أن زواجها منه بالفعل؛ [ ص: 78 ] دليل آخر عملي على أن الإسلام قد سوى بين المسلمين، وأنه لا يطلق الشعارات في الفضاء، غير مطبقة على أرض الواقع، الأمر الذي يعضد أن الفقر في معاوية لم يكن هـو السبب الأساس والرئيس في منع زواجها منه.

رابعا: جواز التعبير عن الحالة الغالبة بالعموم والشمول، شريطة أن لا تترتب على ذلك مفسدة فعلية، واقعة أو متوقعة. فما من شك أن أبا جهم قد يضع عصاه عن عاتقه حالة النوم والأكل، وما شابه ذلك.

كما دل الحديث على جواز إهمال أمر غير ذي بال خلال الإخبار والبيان بالشرط السابق، حيث إن معاوية كان يملك على الأقل ثيابه الذي يلبسه، لكن ذلك لا يأتي بخير، ولا يجدي شيئا لمن أراد الزواج، فإن الزواج بحاجة إلى التكاليف المالية، وإن كانت ضئيلة، مثل المهر وأثاث البيت وغيره [14] .

6- ما توصلت إليه الصديقة الكبرى أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها من استنتاجات وأحكام في إثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وذلك من خلال استحضار كمال أسماء الله تعالى وصفاته، وتجلي تلك الأسماء والصفات في عالم الوجود، ونوع العلاقة الإيجابية بين الخالق الموجد والمخلوق الموجود، [ ص: 79 ] فإن رحمة الله وحكمته، وعدله وإحسانه، ومجازاته للمحسنين، وكل من كان على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من شيم وأخلاق؛ أن لا يخزيه، ولا يسلط عليه الشيطان.

وتفاصيل القضية في قصة بدء الوحي، حيث عاد إليها الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أصابه من هـول الوحي ما أصابه، فقص عليها الخبر، ( فقالت للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم : «إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق ) [15] .

فكانت رضي الله عنها على كمال اليقين أن هـذه الأفعال الطيبة الصادرة منه ( لا يمكن أن تلقى من الله إلا الرضى والمحبة والقبول، ولا يمكن أن يلقى صاحبها من الله إلا الرعاية والتكريم والجزاء الحسن الأوفى [16] .

7- إن الصحابة الكرام البررة رضي الله عنهم كانوا يستدلون على مشروعية وجواز ما أتوه من تصرفات حين نزول القرآن، وحين وجود النبي صلى الله عليه وسلم من بينهم؛ بسكوت الشارع عنه، وعدم إنكاره عليهم إلى انقضاء عهد التشريع، ذلك لأن القرآن الكريم لم يكن يسكت عن بيان المخالفات والمنكرات التي كانت تؤتى عصر التنزيل. [ ص: 80 ] وخير دليل على ذلك أنه لم يسكت في أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين إذ ترك ما هـو الأولى به، وهو كان في مقام التشريع،

فنزل قوله تعالى: ( عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى ) (عبس:1-4) .

وكذلك الحال بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه لم يسكت أبدا على باطل ارتكب، وهو القائل: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) [17] ، وأنه ( لم ير منكرا إلا وأنكره على صاحبه. ونضرب على إنكاره المنكر بمثال واحد من الأمثلة الكثيرة في مشهد حزين قلما يشعر المرء فيه بوقوع المنكر، فضلا عن التصدي له، وكان ذلك عندما أخبر صلى الله عليه وسلم بوفاة عثمان بن مظعون ، رضي الله عنه فأسرع إلى بيته، وبكى صلى الله عليه وسلم عليه بكاء كثيرا، وكان عثمان ، رضي الله عنه من الصحابة القريبين إلى قلبه، وهو الذي أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا، وهو أول من مات بالمهاجرين بالمدينة. ولكن عندما قالت أم العلاء ، رضي الله عنها جزما وقطعا: ( رحمة الله عليك أبا السائب ، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله [18] فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وما يدريك أن الله قد أكرمه؟ فقلت: بأبي أنت [ ص: 81 ] يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟ فقال: أما هـو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ) [19] . أجل، لقد كان صلى الله عليه وسلم رجل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في الوقت والمكان المناسبين، وكان متوازنا في إقامة العدل، فلم يعرف ولم يمارس الإفراط ولا التفريط في حياته. فشفقته وبكاؤه على عثمان لم يمنعه من تصحيح خطأ سمعه، فكيف إذا تجاوزت القضية الخطأ، ودخلت دائرة المنكر؟ فالدموع التي سكبها على أحد أصحابه الأحبة؛ ما حالت بينه وبين تصحيح كلام مبالغ فيه أو خاطئ، فالوفاء شيء، والحق شيء آخر.

وعلى منوال المشهد السابق مشهد آخر، بل أشد منه وقعا يجلي تجسيد صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في النبي صلى الله عليه وسلم ، فكلما رأى أو سمع ما يخل بحقيقة تشريعية، أو بحقيقة كونية؛ استكشف الخطأ وانتصب لتصحيحه، لقد ابتلي صلى الله عليه وسلم بموت ابنه إبراهيم، وكان طفلا، فاهتزت مشاعر الأبوة والحب، فبكى وحزن، ولكن كل ذلك في حدود ما يرضي الله تعالى، فحبه وحزنه لا ينسيانه أنه مبلغ عن الله، وأن أمانة الرسالة من أعظم الأمانات. ولذلك حينما كسفت الشمس، وظن بعض الناس أنها كسفت لموت إبراهيم، ففي هـذه اللحظة الحساسة لم يتردد صلى الله عليه وسلم [ ص: 82 ] في تغيير هـذه الفكرة الخاطئة التي تمس سنة كونية. ( فقال صلى الله عليه وسلم : «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد، ولا لحياته ) [20] .

يقول ابن القيم في الاستدلال على جواز ممارسة المسألة التي سكت عن حكمها الشارع: «وقد كان الصحابة يستدلون على إذن الرب تعالى وإباحته؛ بإقراره وعدم إنكاره عليهم في زمن الوحي، وهذا استدلال على المراد بغير لفظ، بل بما عرف من موجب أسمائه وصفاته، وأنه لا يقر على باطل حتى يبينه» [21] . وفي ذلك ( ورد عن الصحابي الجليل جابر ، رضي الله عنه قوله في شرعية العزل: «كنا نعزل والقرآن ينزل، لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن ) [22] .

هذا، وقد تحدث الأصوليون من الحنفية عن هـذه النقطة في حديثهم عن البيان وأقسامه [23] ، وبالتحديد في حديثهم عن بيان الضرورة، [ ص: 83 ] و جاء عندهم هـذا النوع من البيان مقسما إلى أربعة فروع [24] ، الثاني منها: ما يثبت بدلالة حال الساكت صاحب الشرع.

يقول الكاكي (ت 749هـ) في هـذا الشأن: «سكوت صاحب الشرع، عند أمر يعاينه من قول أو فعل ولم يسبق تحريم، عن التغيير، يدل على حقية ذلك الأمر، مثل ما شاهد من بياعات ومعاملات، كان الناس يتعاملونها، ومآكل ومشارب كانوا يستديمون مباشرتها، فأقرهم عليها ولم ينكرها، فدل أن جميعها مباح، إذ لا يجوز من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقر الناس على محظور، فإنه تعالى وصفه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» [25] ، وذلك في قوله تعالى: ( يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ) (الأعراف:157) ، فكان سكوته بيانا أن ما أقرهم عليه من التصرف يكون داخلا في المعروف المأمور به، وخارجا عن المنكر المنهي عنه [26] . [ ص: 84 ]

ويعد سكوت الشارع عن إعطاء حكم، أو وضع تشريع، مع قيام المقتضي- وهو الحاجة إلى البيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة الفعلي لا يجوز- كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص. وهذا المسلك يتعلق أكثر ما يتعلق بالعبادات، وجعل الإمام الشاطبي هـذا المسلك مرتكزا أساسيا في رفض البدعة [27] .

8- شدد القرآن الكريم في مواضع كثيرة النكير على موقف المشركين من الرسول صلى الله عليه وسلم عند تقويمهم له وحكمهم عليه، ذلك لأنهم نظروا إلى جانب منه، وأهملوا جانبا آخر مهما. نظروا إلى جانب بشريته فقط؛ فلم يؤمنوا به، لأنه كان مثلهم في هـذه الصفة، ولم يكن أفضلهم، الأمر الذي أدى إلى الكفر به ( وقالوا مال هـذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ) (الفرقان:7) ، وكفرهم به كان بسبب غض الطرف عن الجانب الآخر منه، وهو جانب النبوة والوحي. ومعلوم أن القرآن الكريم حينما أكد على بشريته تلك؛ ليرينا إمكانية الاقتداء به، وعدم استحالة ذلك، فكونه بشرا - مثلنا يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويفرح ويحزن، ويتكلم ويسكت، ويتزوج النساء، وغير ذلك - يشكل القاسم المشترك بينه صلى الله عليه وسلم وبين غيره من العالمين، [ ص: 85 ] وهذا القاسم المشترك يساهم في بناء جسر المقاربة والتفاهم والتواصل بين الجانبين، فيتحقق تمثل ما عليه من الصفات، كما تمثلها أصحابه الكرام والتابعون له بإحسان، وآخرون من أمته.

ووصف البشرية له ولغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا غض فيه، ولكن الفارق الذي فاق به على الجميع، وتميز به عنا؛ هـو أنه أوحي إليه، وهذا الوصف ليس لشيء إلا لإيجاب طاعته علينا، ومتابعته في أمر التشريع والتكليف مطلقا، دون غيره من البشر، لانعدام هـذا الوصف فيهم ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ) (الكهف:110) .

وعليه فلا بد من الالتفات الجاد والمتواصل إلى هـذه الميزة الخاصة الفاصلة عند النظر في أقواله، وأفعاله وتقريراته، وقت تفقهها واستنباط أحكام المسائل منها، وإهمال هـذا الجانب النبوي العلوي أثناء القراءة والتفقه، والتصدي لإمداد المستجدات بالحكم الشرعي؛ يترك خللا كبيرا، ويحدث شرخا عظيما في بنية الخطاب ومقاصده، ويعرض ذلك الفهم لخطأ جسيم، يفقد ذلك الحكم نكهته الربانية الخاصة، فيستوي مع بقية خطابات الناس في قيمته التشريعية وقدسيته، وفي الامتثال له في نهاية المطاف.

9- ما ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم من آثار وأقوال حينما أرادوا الإقدام على الاجتهاد ، بهدف استخلاص أحكام المسائل التي كانوا يسألون عنها، فتفيد تلك الآثار قطعا أنسهم بعادات الشارع، [ ص: 86 ] وأنهم كانوا على علم ودراية بما سيقولونه، من حيث إضافته إلى الشارع والشريعة، وكانوا يستحضرون ما عليه الشارع الحكيم من صفات وعادات في التشريع، وبناء على هـذا الأنس الحميم والعرفان القويم؛ فإن كان ما توصلوا إليه من حكم صوابا وحقا، فهو جدير بأن ينسب إلى الشرع، وإن كان على خلاف ذلك؛ بميله عن الحق وخروجه عن الصواب؛ فهو بعيد عن حكم الشرع، والشارع الحكيم منه براء، ومجانبة الحكم للحق والصواب دليل دامغ على بشرية مصدره.

ومن هـذه الآثار، ما " ورد عن الخليفة الراشد صديق الأمة أبي بكر ، رضي الله عنه ، حين سئل عن الكلالة، فقال: إني سأقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، أراه ما خلا الوالد والولد. "

" وقال عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه في المفوضة التي توفي عنها زوجها قبل الدخول بها، ولم يسم لها مهرا: سأقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء " [28] .

ففي هـذه الآثار دليل واضح على أنهم قد أدركوا صفات الشارع في أحكامه، وعلموا علم اليقين أنه لا ينطق إلا بالحق والصواب، واستبعدوا قطعا أن يصدر عنه سوى ذلك. [ ص: 87 ] وهؤلاء هـم الذين صاحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعاشوا معه، في الليل والنهار، في إقامته وترحاله، في حالة السلم والحرب، والذين شاهدوا التنزيل، وفهموا مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكانوا أبر الأمة قلوبا، وأصفاهم أذهانا، وأكملهم فطرة، وكانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، و يسألهم النبي صلى الله عليه وسلم ويتابعهم ويصحح لهم.

من أجل ذلك اكتسبوا خبرة كبيرة، وقريحة صافية، وملكة في تفقه الدين متوقدة، مكنتهم من معرفة ما يرغب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما لا يرغب فيه، في حال وجوده معهم، وفي حال غيابه عنهم. وكان عليه الصلاة والسلام يدربهم على الوصول إلى أحكام الشرع باجتهاداتهم في القضايا عند غيابه ووجوده، ويوافق كثيرا على ما توصلوا إليه، ( وكان يقول صلى الله عليه وسلم لأحدهم: «والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك ) [29] ، ( ويقول لعثمان بن عفان ، رضي الله عنه : ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة ) [30] ، ويقول لآخر منهم: ( حكمت فيهم بحكم الله ) [31] ، كما قاله لسعد بن معاذ ، رضي الله عنه ، في بني قريظة . ويدعو لهم بالتوفيق والخير، [ ص: 88 ] فهذا ابن عباس رضي الله عنه دعا له بقوله: ( اللهم فقهه ) [32] ، ودعى لحسان بن ثابت ، رضي الله عنه بقوله: ( اللهم أيده بروح القدس ) [33] ، وهكذا يمدح كلهم بصفات كريمة.

وفي أمثال تلك الوقائع، كان أحدهم يرى رأيا فينزل القرآن بموافقته، وكيف لا يكون الأمر على هـذا المستوى الرفيع من الصواب والإجادة والإتقان، وقلوبهم كانت على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد أثنى الله تبارك وتعالى عليهم في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم [34] .

أجل، إن من شاهد الأحداث وسمعها وباشرها، وعرف أسباب النزول والورود، والمكي من التشريع والمدني منه، وناسخه من منسوخه، وخاصه من عامه، ومقيده من مطلقه، وما نزل منه ليلا وما نزل منه نهارا، لا شك هـو الأعرف من غيره بصفات الشارع وعاداته ومقاصده في التكليف والتشريع.

وخير مثال على إدراكهم صفات الشارع، وعاداته في التشريع، وتوظيف ذلك في التعرف على حكم الحالات الطارئة التي خلت عن الحكم الشرعي المنصوص عليه؛ [ ص: 89 ] ما نقل ( عن الأزرق بن قيس حيث قال: «كنا على شاطىء نهر بالأهواز قد نضب عنه الماء، فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس، فصلى وخلى فرسه، فانطلقت الفرس، فترك صلاته، وتبعها حتى أدركها فأخذها، ثم جاء فقضى صلاته. وفينا رجل له رأي، فأقبل يقول: انظروا إلى هـذا الشيخ ترك صلاته من أجل فرس، فأقبل فقال: ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال: إن منزلي متراخ فلو صليت وتركت لم آت أهلي إلى الليل، وذكر أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم فرأى من تيسيره ) [35] .

وأبو برزة الأسلمي شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وشهد تيسيره، وهو كان على يقين أن التيسير على العباد رحمة بهم، والتخفيف عنهم رأفة عليهم؛ من صفات الشارع وعاداته في التشريع، ولو كان معه النبي صلى الله عليه وسلم لكان من شأنه تجويز ذلك، ومن هـنا اعتمد على ما عليه صاحب الشرع من الصفات في الاستدلال على صحة التصرف الذي أتاه.

فقوله: «رأيت من تيسيره صلى الله عليه وسلم » رد على هـذا الرجل الذي شدد عليه على أخذه الفرس من غير أن يقطع صلاته، وهو كان يرى أن يترك أبو برزة دابته تذهب، ولا يقطع صلاته. [ ص: 90 ] وقد ورد في بعض الروايات أن الرجل المتشدد غير العالم بصفات الشارع وتشريعه كان من الخوارج ، وأبو برزة وآخرون كثيرون كانوا بالأهواز يقاتلون الحرورية .

واستنباطا من هـذا الأثر الصحيح قال الفقهاء: كل شيء يخشى إتلافه من متاع وغيره يجوز قطع الصلاة لأجله [36] .

ويدل الحديث بجانب ذلك على جواز أن يتحدث الإنسان عن مناقبه وسيرته الذاتية، إذا كانت ثمة حاجة تقتضي ذلك، على أن لا يدخل ذلك في سياق الفخر والتباهي على الآخرين.

ومثل قصة أبي برزة الأسلمي ، رضي الله عنه ؛ ( ما حدث للصحابي عمرو بن العاص ، رضي الله عنه وقد روى ما حدث له بنفسه، حينما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل، قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت؛ إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح. فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟، قال: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت؛ إن اغتسلت أن أهلك، فذكرت قول الله عز وجل : ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم [ ص: 91 ] رحيما ) (النساء:29) ،فتيممت، ثم صليت. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يقل شيئا ) [37] .

وهكذا، ظهر جليا كيف كان عمرو رضي الله عنه اعتمد على صفة «رحمة الشارع» في ما أحاط به، وكان بعيدا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف استدل على صحة ما توصل إليه من حكم. واستفسره الرسول صلى الله عليه وسلم فيما صنع، وأيد ما ذهب إليه بإقراره، ومن علامات ذلك الإقرار؛ ضحكه عليه الصلاة والسلام .

وفي المعنى نفسه، تصديق الشرع والاستسلام له مطلقا في كل حين، بناء على ما تعهده المكلف من الشارع، من الحق والصدق؛ ما ( روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي، فاستتبعه ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي، وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي، فيساومونه الفرس، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه، فنادى الأعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعا هـذا الفرس وإلا بعته، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي فقال: أو ليس قد ابتعته منك؟ فقال الأعرابي: لا، والله ما بعتك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بلى، قد ابتعته منك، فطفق الأعرابي يقول هـلم شهيدا، فقال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه : أنا أشهد أنك قد [ ص: 92 ] بايعته، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة ، فقال: بم تشهد؟، فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين ) [38] .

فقد خص الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل خزيمة، رضي الله عنه بالحكم، فجعل شهادته قائمة مقام شهادتين، وليس ذلك لأحد غيره، وإن كان أفضل منه، وذلك لاستحضاره ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الصفات، وأنه الصادق فيما قال، وصادق فيما يقول، ولم يجرب منه الكذب أبدا، واعترف بذلك حتى العدو، وأن المسلمين قد صدقوه في خبر السماء، الأمر الأهم، والنبأ الأعظم، فكيف لا يصدقونه في خبر الأرض، الأقل شأنا؟! وعلة اختصاصه بالحكم؛ أنه كان أول من سارع إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في تلك القضية، وشهد له بمقتضى التصديق العام له. ومعروف أن الشارع إذا أجزى عباده الصدقين؛ فإنه يجازيهم الجزاء الأوفى، فجاء تكريمه، رضي الله عنه بهذا التكريم الخاص الذي لا يشاركه فيه أحد، حفاظا على القاعدة المقررة العامة في الشهادة من الهدم والإبطال [39] . [ ص: 93 ]

10- ( عن عروة بن الزبير أن عبد الله بن الزبير [40] حدثه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة [41] التي يسقون بها النخل. فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه. فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاري، فقال: أن كان ابن عمتك [42] ! فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، فقال الزبير: والله إني لأحسب هـذه الآية: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) (النساء:65) نزلت في ذلك ) [43] .

فما صدر من هـذا الرجل كان يتعارض تماما وما عليه النبي صلى الله عليه وسلم من خصال وصفات، فهو بعث لترسيخ دعائم العدل والإنصاف، والخير والإحسان، وليقضي على كل أنواع الظلم والحيف، والأنانية والمحسوبية، [ ص: 94 ] ولذلك تلون وجهه صلى الله عليه وسلم وتغير من شدة وثقل كلامه الجارح، الخارج عن جادة الحق والصواب. « وفي رواية: حتى عرفنا أنه قد ساءه ما قال. »

فما حكم به صلى الله عليه وسلم هـو كما حكم قطعا ويقينا، فيجب الإذعان والاستسلام، وليس الاستسلام الظاهري له فحسب، بل مع انضمام الاستسلام المعنوي الوجداني المنبثق من الثقة الكاملة بما صدر منه صلى الله عليه وسلم ، فإن الاعتراض على ما قاله الشارع، والتشكيك فيه؛ يخلع عن الإنسان لباس الإيمان، ويسلب منه هـويته الإسلامية، كما دلت عليه الآية.

ومما يؤكد النزول عند ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم من غير إرابة، وأنه لا يجوز الاحتكام إلى غيره بناء على ما عهده المكلف من أخلاقه وصفاته؛ ما ورد أن ذلك الأنصاري قد ذهب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه كي يحسم النزاع، وأخبره بأنهما كانا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحكم بحكم لم يرتضه، فامتنع الصديق أن يقول في المسألة شيئا بخلاف ما قاله صلى الله عليه وسلم ، كما ذهب إلى الفاروق عمر ، فقال ما قاله الصديق ، وليس هـذا فحسب، بل غضب في الاحتكام إليه [44] .

واستنبط الفقهاء من هـذا الحديث أن الشرب في نهر، أو مسيل غير مملوك يقدم فيه الأعلى فالأعلى، ولا حق للأسفل حتى يستغني الأعلى، وكل ذلك بالعادة المعروفة التي جرت بينهم في مقدار الشرب، وأدرجوا الحديث عن هـذا الموضوع تحت باب «شرب الأعلى قبل الأسفل» [45] . [ ص: 95 ]

11- قد اتصف الشارع بصفات الجلال والجمال والكمال، ومنها صفتا الإرادة والحكمة فإن ما صدر منه من تشريع قد انعكس فيه هـذه الصفات بكل جلاء، فجاءت هـذه التشريعات غائية، مستهدفة تحقيق الخير للإنسان وما حوله، منطوية على حكم قارة ثابتة، أدركها العقل البشري وعلمها، أم قصر عن إدراكها والعلم بها؟ فإن عدم العلم بالشيء؛ لا يدل على عدم وجود ذلك الشيء، وبالضرورة كانت بعيدة عن الارتجال والعبث والعبثية، لأن الحكمة ضد العبث، والضدان لا يجتمعان معا في شيء واحد. وإذا كان القانون الذي وضعه البشر قد اتصف من لدن أهله بأنه يرمي إلى تحقيق مصالح العباد والبلاد، وأنه بعيد عن الارتجال والعبث، فكيف بتشريع أحكم الحاكمين وأعلم العالمين، الذي لا يخفى عليه خافية، وهو أعلم بمن خلق؟!

فهذا التشريع الرباني قد اكتسب لنفسه كل التقدير وكل الاحترام، ولا يدرك كنهه، وما يحتوي عليه من خير وعلم وحقائق إلا من اطلع على تشريعات أخرى أرضية، فلا مطاطية ولا فوضوية في أحكامه، ولا مجال للأهواء فيه، وإنما تحكمه الأسس والضوابط والمباديء، فلم تنط أحكامه بالأمور المضطربة غير المنضبطة، ولم تعلق بالأمور الخفية غير الظاهرة، ولا بالأوصاف غير المفضية إلى تحقيق مصلحة معتبرة، وكذلك لم تربط أحكامه بالأوهام دون الحقائق. [ ص: 96 ] والمولعون بهذا التشريع يعرفون أن الشارع لم يحرم شيئا إلا لاشتماله على مفسدة، وكونه من الخبث والخبائث، وما أحل شيئا إلا لاشتماله على منفعة، وكونه من الطيبات، فوجود الخبث والرجس، والنجس والرجز هـو المعيار الذي اعتمد في تحريم الشيء، ووجود الطيب والطهر، والحسن والخير؛ هـو المقياس الآخر المعتمد في التحليل، فكل خبيث حرام، وكل طيب حلال.

وقد بين هـذا المقياس والمعيار الموضوعي الثابت في التحليل والتحريم،

فقال تعالى: ( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) (الأعراف: 157) ،

وقال تعالى: ( اليوم أحل لكم الطيبات ) (المائدة:5) ،

وقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ) (البقرة:267) ،

وقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) (المائدة:90) ،

وقال تعالى: ( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به ) (الأنعام:145) .

والطيبات يستحسنها العقل السليم والفطرة السوية، والخبائث يستقذرها العقل والفطرة، فتواطأ التشريع مع العقل والفطرة، وتعانقا، [ ص: 97 ] وينبغي أن يتناغما ويتوافقا، لصدورهما من جهة واحدة، من خالق واحد. وقد أدرك هـذا التوافق الكلي والتناسق من لم يكن على مستوى ثقافي وتعليمي كبيرين، فكيف لا يدرك ذلك أهل العلم والبصر، ومن كان أصحاب شهادات وخبرات وتجارب؟!

" فانظر إلى هـذا الأعرابي وقد سئل عن أي شيء أسلمت؟ وما رأيت منه مما دلك على أنه صلى الله عليه وسلم رسول الله؟ فقال: «ما أمر بشيء فقال العقل ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته أمر به، ولا أحل شيئا فقال العقل ليته حرمه، ولا حرم شيئا فقال العقل ليته أباحه» " [46] .

أجل فإن الشارع لا يأتي أبدا بحكم يعارض العقل المنضبط غير المختل، ويتنافى والفطرة الطرية،فالعقل اية الله في الكون والخلق،والتشريع اية الله في التكليف،فهذه من الله وتلك من الله : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ) [ ص: 98 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية