الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                      قلت : فما قول مالك فيمن أفاد مائة دينار فأقرض منها خمسين دينارا ، فضاعت الخمسون الأخرى في يديه مكانها قبل أن يحول عليها الحول عنده ، ثم اقتضى من الخمسين الدينار عشرة دنانير بعدما حال عليها الحول من يوم ملكها ؟ فقال : قال مالك : لا شيء عليه في هذه العشرة الدنانير التي اقتضاها .

                                                                                                                                                                                      قلت : فإن أنفق هذه العشرة الدنانير التي اقتضاها ثم اقتضى عشرة أخرى بعدها ؟ فقال : يزكي هذه العشرة الدنانير التي اقتضاها الساعة والعشرة التي أنفقها .

                                                                                                                                                                                      قلت : لم يزكي العشرين جميعا وقد أنفق إحداهما قبل أن يقتضي الثانية ، ولم لا توجب عليه الزكاة في العشرة الأولى حين اقتضاها وأوجبت عليه الزكاة في العشرة الثانية والعشرة الأولى حين اقتضى العشرة الثانية ؟ فقال : لأن المال كان أصله مائة دينار فتلفت الخمسون التي كانت بقيت عنده قبل أن يحول عليها الحول ، وأقرض الخمسين منها فحال عليها الحول ، فلما اقتضى من الخمسين الدين بعد الحول عشرة دنانير ، قلنا لا تزك ولا شيء عليك فيها الساعة لأنا لا ندري ، لعل الدين لا يخرج منه أكثر من هذه العشرة الدنانير ، فنحن إن أمرناه أن يزكي هذه العشرة الأولى حين خرجت ، يخشى أن نأمره أن يزكي ما لا تجب عليه فيه الزكاة لأن الدين لا يزكى حتى يقتضى .

                                                                                                                                                                                      قلت : ألا ترى أن الدين لو ضاع كله أو توى وقد حالت عليه أحوال عند الذي هو عليه لم يكن على رب المال فيه زكاة ، فكذلك إذا اقتضى منه [ ص: 318 ] ما لا تجب فيه الزكاة لم يزك ذلك حتى يقتضي ما تجب فيه الزكاة : فلما اقتضى العشرة الثانية وجبت عليه الزكاة في العشرة الأولى وفي هذه الثانية .

                                                                                                                                                                                      وإن كان قد أتلف العشرة الأولى لأنها قد حال عليها الحول من يوم ملكها قبل أن ينفقها مع مال له أيضا قد حال عليه الحول قبل أن ينفقه وهي هذه العشرة التي اقتضى ، ألا ترى أن هذه العشرة الثانية التي اقتضى ليست بفائدة وإنما هي من مال قد كان له قبل أن ينفق العشرة الأولى ، فلا بد من أن تضاف العشرة الأولى التي أنفقها إلى هذه العشرة الثانية لأن الحول قد حال عليهما من يوم ملكهما فلا بد من أن يزكيهما ؟

                                                                                                                                                                                      قال : وأما الخمسون التي أنفقها قبل أن يحول عليها الحول عنده ، فلا يلتفت إلى تلك لأنه أخرجها من ملكه قبل أن يحول عليها الحول وقبل أن تجب الزكاة عليه فيها فلا يلتفت إلى تلك .

                                                                                                                                                                                      قلت : فما خرج من بعد هذه العشرين من هذا الدين الخمسين وإن درهما واحدا زكاه ؟

                                                                                                                                                                                      قال : نعم لأن هذا الدرهم الذي اقتضى من هذه الخمسين قد حال عليه الحول ووجبت فيه الزكاة ، وهو مضاف إلى مال عنده قد وجبت فيه الزكاة وهي تلك العشرين التي زكاها .

                                                                                                                                                                                      قلت : أرأيت لو أنه حين أقرض الخمسين الدينار بقيت الخمسون الأخرى في يده لم تضع منه حتى زكاها فأنفقها بعدما زكاها مكانه ، ثم اقتضى من الخمسين الدين دينارا واحدا مكانه بعدما زكى الخمسين التي كانت عنده وبعدما أنفقها . أو اقتضى الدينار بعد ذلك بيسير ؟ فقال : يزكي هذا الدينار ساعة اقتضاه .

                                                                                                                                                                                      قلت : ولم وإنما اقتضى دينارا واحدا وقد زعمت في المسألة الأولى أنه لا يزكي حتى يقتضي عشرين دينارا ؟ فقال : لا تشبه هذه المسألة الأولى ، لأن هذه قد بقيت الخمسون في يديه حتى زكاها ، والأولى لم تبق الخمسون في يديه حتى يزكيها فهذا لما بقيت الخمسون في يديه حتى زكاها كانت بمنزلة ما لو كانت المائة سلفا كلها ، ثم اقتضى الخمسين بعد الحول فزكاها ثم أنفقها ، فلا بد له من أن يزكي كل شيء يقتضي من ذلك الدين ، وإن درهما واحدا لأنه يضاف إلى الخمسين التي زكاها ، قال : وإن كان قد أنفقها لأن الزكاة لما وجبت عليه في الخمسين الدينار التي كانت عنده وجبت عليه الزكاة في كل مال يملكه من الناض مما أفاد قبل الخمسين مما تجب فيه الزكاة أو لا تجب ، فهو لما زكى الخمسين الدينار إنما امتنع من أن يزكي الدين لأنه لا يدري أيخرج أم لا يخرج ، فلما خرج منه شيء وإن درهما واحدا لم يكن له بد من أن يزكيه .

                                                                                                                                                                                      قلت : وأصل هذا عند مالك أن كل مال أفدته مما لا تجب فيه الزكاة ثم أفدت بعده ما تجب فيه الزكاة أو لا يبلغ أن يكون فيه الزكاة ، إلا أن يجمع بعضه إلى بعض فتجب فيه الزكاة إن جمع ، فإنما يضاف الأول إلى الآخر فيزكى إذا حال عليه الحول من يوم أفاد الفائدة الآخرة ؟

                                                                                                                                                                                      قال : نعم .

                                                                                                                                                                                      قلت : وكذلك لو أنه أفاد عشرة دنانير فأقرضها [ ص: 319 ] رجلا ثم أفاد بعدها بسنة خمسين دينارا فحال الحول على الخمسين عنده ، فزكى الخمسين ثم أتلفها ثم اقتضى من العشرة الدنانير دينارا واحدا زكاه لأنه يضاف هذا الدينار إلى الخمسين التي أفادها بعد العشرة فزكاها ؟

                                                                                                                                                                                      قال : نعم .

                                                                                                                                                                                      قلت : وأصل هذا في قول مالك أنك تنظر أبدا إذا أفاد الرجل ما تجب فيه الزكاة فأقام عنده حولا فزكاها ، ينظر إلى كل مال كان له قبل أن يقيد هذا المال الذي وجبت فيه الزكاة من الديون التي على الناس ومما قد كان بيده من الناض مما لا تجب فيه الزكاة إذا كان ذلك في ملكه قبل أن يقيد هذا المال الذي وجبت فيه الزكاة فيضيفه إلى هذا المال الذي وجبت فيه الزكاة فيما كان في يديه من ذلك ، زكاه مكانه مع هذا المال الذي وجبت فيه الزكاة وما كان من دين أخرته حتى تقبضه فتزكيه ، فكل شيء تقبضه منه ولو درهما واحدا فتخرج ربع عشره لأنه إنما امتنع من أن يزكي هذا الدرهم الذي اقتضى من دينه يوم زكى ماله الذي وجبت فيه الزكاة ، لأنه لم يكن في يديه فلما صار في يديه قلنا زكه مكانك الساعة ، لأن الزكاة قد كانت وجبت فيه يوم زكيت مالك ؟ قال : نعم .

                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية