الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          وقد ذكرنا اختلاف قيمة الإبل في قول عمر بن عبد العزيز ، وإبراهيم النخعي ، فبطل بذلك دعواهم الكاذبة على جميع الأمة في دعواهم أنهم أجمعوا .

                                                                                                                                                                                          بل الحق في هذا أن يقال : لما صح الإجماع المتيقن ، والنص الثابت : أن الدية تكون من الإبل - واختلفوا فيما عدا ذلك - : وجب أن لا تكون الدية إلا مما أجمعوا عليه فقط .

                                                                                                                                                                                          وموهوا أيضا - بأن قالوا : لما كانت الدية من الإبل ثم نقلت إلى الذهب والفضة على سبيل التقويم ، وكانت القيمة المعهودة لا تكون إلا من الذهب والفضة : وجب أن لا تكون الدية إلا من الذهب والفضة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا الباطل الثاني يكذب باطلهم الذي موهوا قبل هذا به ; لأن هنالك راموا أن يجعلوا الذهب ، والفضة ، في الدية توقيفا لا بدلا بقيمة ، وهنا أقروا أنها بدل بقيمة ، فلو استحى هؤلاء القوم من المجاهرة بالتخليط في نصر الباطل لكان خيرا لهم .

                                                                                                                                                                                          ثم نقول لهم : إذ قد أقررتم أنها بدل بقيمة فهي على قدر ارتفاع القيمة وانخفاضها ، ولا ندري أي شيء اتفقوا عليه في البدل والتقويم ؟ .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 289 ] وموهوا أيضا - بأن قالوا : لما صح أن الدية لا تكون من الخيل ، ولا من الحمير ، ولا من العروض : وجب أن لا تكون أيضا من البقر ، ولا من الغنم ، ولا من الثياب .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قياس والقياس كله باطل ، ثم نعكس عليهم قياسهم الفاسد فنقول لهم : لما صح عندكم أن الدية تكون من غير الإبل وجب أن تكون من كل شيء إلا مما اتفقتم على أن لا تكون منه .

                                                                                                                                                                                          وأيضا - فإن الإبل حيوان تجب فيه الزكاة ، وقد صح أن الدية تكون منها ، فوجب أن يقاس عليها البقر والغنم ; لأنهما حيوان يزكى .

                                                                                                                                                                                          والحق من هذا - هو أنه لما صح أن الدية لا تكون من الخيل ، ولا من الحمير ، ولا من العروض ، وجب أيضا أن لا تكون من الذهب ، ولا من الفضة ، ولا مما عدا ما جاء به النص والاتفاق .

                                                                                                                                                                                          والعجب - أن الحنفيين يقولون : إن ضعيف الأثر أولى من القياس ، وها هنا نقضوا هذا الأصل الذي صححوه .

                                                                                                                                                                                          وشغب المالكيون منهم بآثار نذكرها إن شاء الله تعالى : وهي أثر - روينا من طريق زيد بن الحباب العكلي أنا محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أنه قضى بالدية اثني عشر ألف درهم ؟ } قال أبو محمد رضي الله عنه : محمد بن مسلم الطائفي ساقط لا يحتج بحديثه .

                                                                                                                                                                                          ومنها أثر - رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن ميمون أنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة سمعت مرة يقول : عن ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باثني عشر ألف درهم - يعني في الدية } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا لا حجة فيه ; لأن قوله في الخبر المذكور - يعني في الدية - ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في الخبر بيان أنه من قول ابن عباس ، [ ص: 290 ] فالقطع بأنه قوله حكم بالظن ، والظن أكذب الحديث ، فإن كان من قول من دون ابن عباس فلا حجة فيه ، وقد يقضي عليه الصلاة والسلام باثني عشر ألفا في دين ، أو في دية بتراضي الغارم والمقضي له ، فإن ليس في هذا الخبر بيان أنه قضاء منه عليه الصلاة والسلام بأن الدية اثنا عشر ألف درهم - فلا يجوز أن يقحم في الخبر ما ليس فيه .

                                                                                                                                                                                          والقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظن كذب عليه ، وهذا يوجب النار - ونعوذ بالله مما أدى إليها .

                                                                                                                                                                                          والذي رواه مشاهير أصحاب ابن عيينة عنه في هذا الخبر فإنما هو عن عكرمة لم يذكر فيه ابن عباس ، كما رويناه من طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال { : قتل مولى لبني عدي بن كعب رجلا من الأنصار فقضى النبي صلى الله عليه وسلم في ديته باثني عشر ألفا ، } والمرسل لا تقوم به حجة .

                                                                                                                                                                                          وذكروا أيضا - ما رويناه من طريق الأوزاعي عن عمرو بن سعيد عن يزيد الرقاشي عن أنس قال { : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن أجلس مع قوم يذكرون الله عز وجل من بعد صلاة العصر إلى أن تغيب الشمس أحب إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفا } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رضي الله عنه : يزيد الرقاشي ضعيف لا يحتج به .

                                                                                                                                                                                          وذكروا ما رويناه من طريق حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من قرأ بخمسمائة إلى ألف آية أصبح وله قنطار في الآخرة ، والقنطار دية أحدكم اثنا عشر ألفا } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا مرسل ، ولا حجة في مرسل إلا أن الحنفيين نقضوا هاهنا أصولهم أقبح نقض ; لأنهم يقولون : المرسل والمسند سواء ، وكلاهما أولى من النظر ، وتركوا هاهنا هذه المراسيل ، وهم يحتجون في نصر رأي أبي حنيفة بمثلها ، وبأسقط منها .

                                                                                                                                                                                          فصح أنهم متلاعبون لا تحقيق عندهم إلا في نصر رأي أبي حنيفة الذي رضوا به بدلا من القرآن ، ومن بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ [ ص: 291 ]

                                                                                                                                                                                          وقالوا : لعل هذه الآثار إنما أراد فيها بذكر الاثني عشر ألفا أنها وزن كل عشرة منها وزن ستة مثاقيل .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا من أسخف كلام في الأرض ; لأن العشرة آلاف درهم عندهم لا يختلفون أنها وزن سبعة آلاف مثقال .

                                                                                                                                                                                          ولا يختلف المالكيون في أن الاثني عشر ألف درهم هي وزن ثمانية آلاف مثقال وأربعمائة ، فعاد قولهم : وزن ستة مثاقيل في العشرة هذيانا لم يعقل قط قديما ولا حديثا .

                                                                                                                                                                                          وشغب المالكيون أيضا بخبر - : رويناه من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل أنا عبد الله بن عون الخراز أنا عفيف بن سالم الموصلي عن عبد الله بن المؤمل عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة بنت طلحة قالت : كان جان يطلع على عائشة أم المؤمنين فخرجت عليه مرة بعد مرة ، فأبى إلا أن يظهر فعدت عليه بحديدة فقتلته ، فأتيت في منامها ، فقيل لها : أقتلت فلانا ، أما إنه قد كان شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لا يطلع عليك لا حاسرا ولا متجردا إلا أنه كان يسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم فأخذها ما تقدم وما تأخر ؟ فذكرت ذلك لأبيها ؟ فقال : تصدقي باثني عشر ألف درهم ديته . قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا لا شيء - عفيف بن سالم مجهول لا يدرى من هو ؟ وعبد الله بن المؤمل هو المكي : ضعيف لا يحتج به .

                                                                                                                                                                                          وأشبه ما في هذا الباب - فخبر رويناه من طريق يحيى بن سعيد القطان أنا أبو يونس حاتم بن أبي صغيرة عن ابن أبي مليكة عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين أنها قتلت جانا ، فأتيت في منامها ، وقيل لها : والله لقد قتلته مسلما ؟ قالت : لو كان مسلما لم يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقيل : أو كان يدخل عليك إلا وعليك ثيابك ؟ فأصبحت فزعة ، فأمرت باثني عشر ألف درهم فجعلتها في سبيل الله عز وجل . قال أبو محمد رضي الله عنه : لا حجة لهم في هذا ; لأنه ليس في هذا الخبر أنها قصدت بذلك قصد دية وجبت عليها ، فزيادة ذلك عليها كذب لا يحل ، وإنما هي صدقة تصدقت بها .

                                                                                                                                                                                          ولا يختلف المالكيون في أن القتل ليس إلا عمدا أو خطأ ، فإن كان قتلها له خطأ فليس فيه أنها كفرت بعتق رقبة - وهي المفترضة في القرآن - لا الاثني عشر ألف [ ص: 292 ] درهم - : وإن كان قتلها له عمدا ، فهم لا يختلفون في أنه لا دية في العمد ، إنما هو القود ، أو العفو ، أو ما تراضوا عليه ، ولا شك في أنها - رضي الله عنها - لم تراض مع عصبة الجني على الاثني عشر ألف درهم : فبطل أن يكون للدية هاهنا مدخل ، وإنما هي أحلام نائم لا يجوز أن تشرع بها الشرائع ، والأظهر أنها من حديث النفس - فصح : أنها صدقة تطوع منها - رضي الله عنها - فقط ، لا يجوز غير ذلك أصلا .

                                                                                                                                                                                          وموهوا بما روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق أنا إبراهيم بن الحجاج أنا عبد الوارث بن سعيد التنوري أنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب أن عمر بن الخطاب جعل الدية على أهل الذهب ألف دينار - وهذا منقطع .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق وكيع أنا سفيان الثوري عن أيوب بن موسى عن مكحول قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والدية ثمانمائة دينار ، فخشي عمر من بعده فجعل الدية اثني عشر ألفا ، وألف دينار . قال أبو محمد رضي الله عنه : نشهد بشهادة الله عز وجل أن هذا كذب موضوع ، وقد أعاذ الله تعالى عمر - رضي الله عنه - من أن يبدل ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقر الحكم ، ثم مات أبو بكر - رضي الله عنه - عليه .

                                                                                                                                                                                          وأحمق الحمق قول من وضع هذا الخبر " فخشي عمر من بعده فجعلها ألف دينار واثني عشر ألف درهم " ليت شعري ماذا خشي ممن بعده ، وكيف خشي من بعده إن ترك الدية ثمانمائة دينار ، ولم يخش من بعده إذ بلغها ألف دينار أو اثني عشر ألفا ؟ هل في النوك أكثر من هذا الكلام ؟ ما شاء الله كان ، لقد كيدت ملة الإسلام من كل وجه ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره .

                                                                                                                                                                                          وتالله لو جاز لعمر أن يزيد فيما مضى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بعده لتجوزن لمن بعد عمر الزيادة على فعل عمر قطعا ، بل الزيادة على حكم عمر أخف من الزيادة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم أبي بكر بعده - ونحن نبرأ إلى الله تعالى من هذه الضلالة ، وهذا عيب المرسل ، فتأملوه ؟ .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد الأنصاري أن عمر بن الخطاب لما [ ص: 293 ] رأى أثمان الإبل تختلف قال : لأقضين فيها بقضاء لا يختلف فيه بعدي ، فقضى على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم . قال أبو محمد رضي الله عنه : لم يولد يحيى بن سعيد الأنصاري إلا بعد موت عمر بنحو نيف وأربعين عاما .

                                                                                                                                                                                          وبالله الذي لا إله إلا هو ما قال عمر قط هذا الكلام ، وما كان في فضله - رضي الله عنه - ليقطع على ما يكون بعده ، لا سيما وقد ظهر كذب هذا القول الذي أضافوه إلى عمر ، فإن الخلاف في ذلك لأظهر من أن يجهله من له أقل علم ، وهذا من عيوب المرسل فاحذروه ؟ .

                                                                                                                                                                                          وذكروا - ما رويناه من طريق سعيد بن منصور أنا هشيم أنا يونس بن عبيد عن الحسن أن عمر بن الخطاب قوم الإبل في الدية عشرين ومائة درهم كل بعير - هذا مرسل ، ثم إنما ذكر قيمة لا حدا محدودا ، ثم قد روي عن عمر غير هذا على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          وذكروا ما روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق أنا سليمان بن حرب أنا حماد بن زيد عن ابن أبي نجيح عن أبيه أن امرأة قتلت في الحرم فجعل عثمان بن عفان ديتها ثمانية آلاف درهم دية وثلث دية . ومن طريق حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن أبي نجيح أن امرأة قتلت في الحرم فجعل عثمان ديتها ستة آلاف درهم ، وألفين للحرم .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية