الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1804 [ ص: 234 ] حديث رابع لعبد الرحمن بن أبي صعصعة

مالك ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن سليمان بن يسار أنه قال : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة بنت الحارث فإذا ضباب فيها بيض ، ومعه عبد الله بن عباس ، وخالد بن الوليد فقال : من أين لكم هذا ؟ فقالت : أهدته إلي أختي هزيلة بنت الحارث ، فقال لعبد الله بن عباس ، وخالد بن الوليد : كلا . فقالا : ولا تأكل يا رسول الله ؟ فقال : إني تحضرني من الله حاضرة ، قالت ميمونة : أنسقيك يا رسول الله من لبن عندنا ؟ قال : نعم فلما شرب قال : من أين لكم هذا ؟ فقالت : أهدته إلي أختي هزيلة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرأيتك جاريتك التي كنت استأمرتني في عتقها ، أعطيها أختك ، وصلي بها رحمك ترعى عليها ، فإنه خير لك .

[ ص: 235 ]

التالي السابق


[ ص: 235 ] قال أبو عمر :

هكذا قال يحيى فإذا ضباب فيها بيض ، وقال ابن القاسم فإذا بضباب فيها بيض ، وقال القعنبي ، وابن نافع ، وابن بكير ، ومطرف : فأتي بضباب قال القعنبي : فيهن بيض ، وقال غيره : فيها ، وقال يحيى : أرأيتك ، وقال غيره : أرأيت ، وقال يحيى : وصلي بها رحمك ، وقال غيره : وصليها بها ترعى عليها ، والمعاني في ذلك كله متقاربة ، وكذلك ألفاظ الرواة في الموطأ في متون الأحاديث متقاربة متدافعة ، ولم يختلف الرواة للموطأ في إسناد هذا الحديث وإرساله على حسبما ذكرناه عن يحيى ، وقد رواه بكير بن الأشج ، عن سليمان بن يسار ، عن ميمونة ; فأما ما في هذا الحديث من ذكر الضب ، وامتناع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أكله ، وإذنه لخالد بن الوليد ، وعبد الله بن عباس في أكله ، فقد مضى هذا المعنى مسندا في حديث ابن شهاب ، عن أبي أمامة من كتابنا هذا ، ومضى أيضا في الضب حديث مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن النبي عليه السلام ، وقد ذكرنا في باب عبد الله بن دينار ما لفقهاء الأمصار من الاختلاف في أكل الضب ، وما نزعت به كل فرقة وذهبت إليه من الآثار في ذلك - بأبسط ما يكون وأوضحه ، فمن أراد الوقوف على ذلك تأمله هناك ، فلا معنى لإعادة ما مضى من ذلك هاهنا .

أما قوله في هذا الحديث فقال : إني تحضرني من الله حاضرة فمعناه - إن صحت هذه اللفظة ؛ لأنها لا توجد في غير هذا الحديث - معناها ما [ ص: 236 ] ظهر في حديث ابن عباس ، وخالد بن الوليد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فيه : لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه .

وقد روي عن عمر بن الخطاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قذر الضب فلم يأكله ، وقد بينا المعنى في ذلك كله في باب ابن شهاب ، وعبد الله بن دينار ، والحمد لله .

حدثنا أحمد بن قاسم ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سليمان اليشكري ، عن جابر بن عبد الله ، عن عمر بن الخطاب : أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحرم الضب ، ولكن قذره ، وأن الله لينفع به غير واحد ، وأنه لطعام الرعاء ، ولو كان عندي لأكلته .

حدثنا قاسم بن محمد قال : حدثنا خالد بن سعيد قال : حدثنا محمد بن فطيس قال : حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال : حدثنا وهب بن جرير قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أهدت خالتي أم حفيد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطا ، وسمنا ، وأضبا ، فأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأقط ، والسمن ، ولم يأكل من الأضب ، وأكل على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو كان حراما لم يؤكل على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا الحديث من أصح ما يروى من المسندات في معنى حديث هذا الباب المرسل ، وأظن أم حفيد المذكورة في حديث ابن عباس هذا هي هزيلة أم حفيد ; لأن أم ابن عباس هي أم الفضل بنت الحارث أخت ميمونة ، وأخت هزيلة أم حفيد ; فهزيلة المذكورة في حديث مالك هي أم حفيد - والله أعلم - ، ومن تدبر ذلك في الحديثين لم يخف عليه إن شاء الله .

[ ص: 237 ] وما نزع به ابن عباس فحجة واضحة ; لأنه لو كان حراما ما أكل على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث آمرا بالمعروف ، وناهيا عن المنكر ، ومعلما - صلى الله عليه وسلم - ، وقد تكرر هذا المعنى في غير موضع من كتابنا هذا بما فيه شفاء وبيان ، والله المستعان .

وفي هذا الحديث أيضا الأكل من الصدقة ، وقبولها ، وفيه أن الصدقة على الأقارب وذوي الأرحام أفضل من العتق ، ولهذا ما سيق هذا الحديث ، وما كان مثله في معناه .

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى من وجوه متصلة ومنقطعة صحاح :

أخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا هناد بن السري ، عن عبدة ، عن ابن إسحاق ، وأخبرنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا يعلى قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن بكير بن عبد الله بن الأشج ، عن سليمان بن يسار ، عن ميمونة قالت : كانت لي جارية فأعتقتها ، فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بعتقها فقال : آجرك الله ، أما إنك لو أعطيتها أخوالك لكان أعظم لأجرك .

ورواه ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن بكير ، عن كريب ، عن ميمونة ، والقول في إسناد هذا الحديث قول ابن إسحاق - والله أعلم - .

وعند ابن إسحاق في هذا الحديث إسناد آخر : أخبرنا محمد بن إبراهيم ، [ ص: 238 ] قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : أخبرنا أحمد بن شعيب قال : أخبرني محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم قال : حدثنا أسد بن موسى .

ووجدت في أصل سماع أبي بخطه رحمه الله أن محمد بن أحمد بن قاسم حدثهم قال : حدثنا سعيد بن عثمان قال : حدثنا نصر بن مرزوق قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ميمونة : أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - خادما ، فأعطاها خادما فأعتقتها ، فقال لها : ما فعلت الخادم : قلت : يا رسول الله أعتقتها قال : أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك .

أخبرنا أحمد بن عبد الله قال : أخبرنا مسلمة بن القاسم قال : أخبرنا محمد بن ريان قال : أخبرنا محمد بن رمح قال : أخبرنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عراك بن مالك أن عروة بن الزبير أخبره : أن رجلا من بني غفار لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصحبه ، وترك أبويه فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من كان يمهن لأبويك قال : أنا ، فأخدمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خادما ، فلبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أياما ، ثم سأله عن العبد ما فعل ؟ قال : أعتقته قال : لو أعطيته أبويك كان خيرا لك .

أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى قال : حدثنا أحمد بن سعيد قال : حدثنا محمد بن إبراهيم الديلي قال : حدثنا عبد الحميد بن صبيح قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : أن ميمونة أعتقت جارية لها ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : أفلا أعطيتها أختك الأعرابية .

قال أبو عمر :

يعني هزيلة ، وهي أم حفيد - والله أعلم - .




الخدمات العلمية