الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        المسألة الثالثة والعشرون : في التخصيص بالقياس

                        ذهب الجمهور إلى جوازه .

                        قال الرازي في المحصول : وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، ومالك ، وأبي الحسين البصري ، والأشعري ، وأبي هاشم أخيرا .

                        وحكاه ابن الحاجب في مختصر المنتهى ، عن هؤلاء ، وزاد معهم الإمام الرابع أحمد بن حنبل ، وكذا حكى ابن الهمام في التحرير .

                        وحكى القاضي عبد الجبار ، عن الحنابلة ، عن أحمد روايتين .

                        وحكاه الشيخ أبو حامد ، وسليم الرازي عن ابن سريج .

                        وذهب أبو علي الجبائي إلى المنع مطلقا .

                        ونقله الشيخ أبو حامد ، وسليم الرازي عن أحمد بن حنبل ، وقيل : إن ذلك إنما هو في رواية عنه ، قال بها طائفة من أصحابه .

                        ونقله القاضي أبو بكر الباقلاني عن طائفة من المتكلمين ، وعن الأشعري .

                        وذهب عيسى بن أبان إلى أنه يجوز إن كان العام قد خصص قبل ذلك بنص قطعي ، كذا حكاه عنه القاضي أبو بكر في التقريب ، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، وأطلق صاحب المحصول الحكاية عنه ، ولم يقيدها بكون النص قطعيا ، وحكى هذا المذهب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن بعض العراقيين .

                        وذهب الكرخي إلى أنه يجوز إن كان قد خص بدليل منفصل ، وإلا فلا ، كذا حكاه عنه صاحب المحصول ، وغيره .

                        [ ص: 454 ] وذهب الإصطخري إلى أنه يجوز إن كان القياس جليا ، وإلا فلا ، كذا حكاه عنه الشيخ أبو حامد ، وسليم الرازي ، وحكاه الشيخ أبو حامد أيضا عن إسماعيل بن مروان من أصحاب الشافعي .

                        وحكاه الأستاذ أبو منصور ، عن أبي القاسم الأنماطي ، ومبارك بن أبان ، وأبي علي الطبري ، وحكاه ابن الحاجب في مختصر المنتهى عن ابن سريج ، والصحيح عنه ما تقدم .

                        وذهب الغزالي إلى أنه إن تفاوت القياس والعام في غلبة الظن ، رجح الأقوى ، فإن تعادلا فالوقف ، واختاره المطرزي ، ورجحه الفخر الرازي ، واستحسنه القرافي ، والقرطبي .

                        وذهب الآمدي إلى أن العلة إن كانت منصوصة أو مجمعا عليها جاز التخصيص به ، وإلا فلا .

                        وقد حكى إمام الحرمين في النهاية مذهبين لم ينسبهما إلى من قالهما :

                        أحدهما : أنه يجوز إن كان الأصل المقيس عليه مخرجا من عام وإلا فلا .

                        والثاني : أنه يجوز إن كان الأصل المقيس عليه مخرجا من غير ذلك العام ، وإلا فلا .

                        وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني : القياس إن كان جليا مثل فلا تقل لهما أف جاز التخصيص به بالإجماع ، وإن كان واضحا ، وهو المشتمل على جميع معنى الأصل ، كقياس الربا ، فالتخصيص به جائز في قول عامة أصحابنا ، إلا طائفة شذت لا يعتد [ ص: 455 ] بقولهم ، وإن كان خفيا ، وهو قياس علته الشبه ، فأكثر أصحابنا أنه لا يجوز التخصيص به ، ومنهم من شذ فجوزه .

                        قال الأستاذ أبو منصور ، والأستاذ أبو إسحاق أجمع أصحابنا على جواز التخصيص بالقياس الجلي .

                        واختلفوا في الخفي على وجهين ، والصحيح الذي عليه الأكثرون جوازه أيضا ، وكذا قال أبو الحسين بن القطان ، والماوردي ، والروياني ، وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أن الشافعي نص على جواز التخصيص بالخفي في مواضع .

                        واحتج الجمهور : بأن العموم والقياس دليلان متعارضان ، والقياس خاص ، فوجب تقديمه .

                        وبهذا يعرف أنه لا ينتهض احتجاج المانعين بقولهم : لو قدم القياس على عموم الخبر لزم تقديم الأضعف على الأقوى ، وأنه باطل ; لأن هذا التقديم إنما يكون عند إبطال أحدهما بالآخر ، فأما عند الجمع بينهما وإعمالهما جميعا فلا .

                        وقد طول أهل الأصول الكلام في هذا البحث بإيراد شبه زائفة لا طائل تحتها .

                        وسيأتي تحقيق الحق إن شاء الله تعالى في باب القياس ، فمن منع من العمل به مطلقا منع من التخصيص به ، ومن منع من بعض أنواعه دون بعض ، منع من التخصيص بذلك البعض ، ومن قبله مطلقا خصص به مطلقا .

                        والتفاصيل المذكورة هنا من جهة القابلين له مطلقا ، إنما هي باعتبار كونه وقع هنا مقابلا لدلالة العموم .

                        والحق الحقيق بالقبول : أنه يخصص بالقياس الجلي ; لأنه معمول به لقوة دلالته ، وبلوغها إلى حد يوازن النصوص ، وكذا يخصص بما كانت علته منصوصة ، أو مجمعا عليها ، أما العلة المنصوصة فالقياس الكائن بها في قوة النص ، وأما العلة المجمع عليها فلكون ذلك الإجماع قد دل على دليل مجمع عليه ، وما عدا هذه الثلاثة الأنواع من القياس ، فلم تقم الحجة بالعمل به من أصله .

                        وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا في القياس على وجه يتضح به الحق اتضاحا لا يبقى عنده ريب لمرتاب .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية